الثمانينيات.. أزمات وحكايات طريفة

2020.11.26 | 23:26 دمشق

untitled-2.jpg
+A
حجم الخط
-A

كانت فترة الثمانينيات هي الأسوأ في سوريا، سياسياً، واقتصادياً وأمنياً، واجتماعياً.. خلال السنوات القلائل التي أعقبت حرب تشرين الأول 1973، تدفقت أموال خليجية على سوريا تحت بند "دعم صمود دول المواجهة مع العدو الإسرائيلي"، فأحدثت ازدهاراً نسبياً.. هذه الفترة انتهت بعد عملية مدرسة المدفعية بحلب، أواخر 1979، وإعلان الملاحقة الشاملة لجماعة الإخوان المسلمين، وصدور القانون 49 لعام 1980.. وحل محلها البطش، والخوف، والتضخم النقدي، وأزمة فقدان السلع الضرورية، وكان ورق الطباعة من ضمن السلع التي فُقدت من الأسواق، وصار لها سوق سوداء نشيطة.

يمكن أن يأخذ الحديث عن أزمة الورق منحيين، أولُهما هزلي، تلخصه حكاية جرت معي تعود إلى سنة 1986، على وجه التقريب، وهي التالية:

خلال تلك الفترة كنت أنشر زوايا ساخرة في الصفحة الثقافية بجريدة تشرين، واحدة منها كتبتُها وأنا في قمة (الرواق والسلطنة)، عنوانها "ورق.. ورق".. ملخصها أنني كنت أقلب في الصحف اليومية، وعثرت في الصفحة الثقافية بإحداها على قصيدة "تشرينية".

كان ثمة احتفالات بذكرى حرب تشرين، وكانت تلك القصيدة منشورة في رأس الصفحة. لم أعد أذكر منها الكثير، ولا اسمَ صاحبها، فهو شاعر مغمور ممن تظهر أسماؤهم خلال المناسبات وتختفي طوال الأيام العادية، يقول في مطلعها مخاطباً حبيبتَه:

خذيني إليكِ ضميني

حبيبتي أنتِ، يا زهرَ التشاريني

كتبتُ في الزاوية أنني سأتغاضى عن الكسر في وزن القصيدة، وأركز جهدي في قراءتها على عنصر اللغة، فتشرين الأول وتشرين الثاني يُعرفان في اللاتينية باسمين مختلفين هما أكتوبر ونوفمبر، ولا يجوز جمعُهما، بالتالي، على "تشارين"، وإن كان أهلنا القدامى يقولون تشارين، وكوانين، فتلك من العامية التي تُعَامِل المثنى معاملة الجمع، كقولهم عمن يتشهى أكل البطيخ في الشتاء "شهوات المجانين في كوانين"، وإذا قبلنا، من باب الجدل، بهذه الصيغة الغريبة، فإنه لا يجوز إدخال أل التعريف عليها لتصبح (التشارين)، وأما إدخال الياء على التشارين ليصبح عجز البيت "التشاريني" فينطوي على إساءة كارثية للشعر العربي، لأنه لا يوجد أي استثناء لغوي أو عَرُوضي يجيز ذلك. وأقفلت الزاوية زاعماً بأن مسؤول الصفحة الثقافية التي نشرت القصيدة لو استبعدها لوفر مساحة لنشر أشياء ناجحة ومفيدة، أما وأنه نشرها فقد ساهم مساهمة فعالة في تعميق أزمة الورق! 

انتهى الجانب الهزلي من الحكاية، وأما الجانب التراجيدي، المخيف، ففي اليوم التالي لنشر زاويتي، كان الصحفيون المداومون في القسم الثقافي بجريدة تشرين منشغلين بأعمالهم، ففوجئوا بدخول شاب غاضب، مزمجر، يلوب بعينيه يمنة ويسرة ويسأل:

- وين هادا خطيب بدلة؟

وبصعوبة بالغة تمكنوا من تهدئته، ثم أفهموه أن خطيباً هذا غير موظف في الجريدة، وهو يرسل مقالاته إلى الصحيفة بالبريد من إدلب. فهمر، ووقف ليغادر المكان قائلاً ما معناه إن ما حصل هو قمة المسخرة، فبينما هو يقوم بواجبه في مديح السيد الرئيس بطل التشارينِ (التشاريني) أنتم تسمحون لهذا الـ.. بأن يسخر مني ومن قصيدتي!

وانتهت الحكاية عند هذا الحد.

وأما المنحى الآخر، الجاد، فلا يخلو، هو الآخر، من بعض الهزل، ويتلخص في أن نسبة لا يستهان بها مما كان يُطبع في سوريا تلك الأيام يمكن الاستغناء عنه، أو يمكن (تَلَافيه)، على حد تعبير محمود درويش، للتخفيف من حدة أزمة الورق.. ولكن، هيهات أن تمر أزمة كهذه على مرتَزَقة نظام الأسد دون أن يستفيدوا منها، فقد أحدثت الجهات المختصة آليةً معقدة لطباعة الكتب، تتلخص في أن يتقدم مَن لديه مخطوط كتاب أدبي أو سياسي أو تاريخي أو فكري بطلب إلى وزارة الإعلام للموافقة على طباعة كتابه، ويحال المخطوط إلى دائرة الرقابة، أصولاً، فإن أجيز يَطلب صاحبُه تزويدَه بكمية من الورق تكفي لطباعة ثلاثة آلاف نسخة، بالسعر الرسمي، وحينما يصبح الورق في حوزته يقدمه لإحدى دور النشر، فتطبع له الدار خمسمئة نسخة من الكتاب، وتستفيد من بقية الورق الذي يباع في السوق السوداء بسعر أعلى بكثير من السعر الرسمي، حتى إن بعض دور النشر كانت تمنح الحاصلَ على رخصة طباعة عرضاً مغرياً وهو أن تطبع له 500 نسخة (ببلاش) مقابل أن يتنازل لها عن رخصة الورق!

(ملاحظة: كان الكاتب المغمور يطبع 500 نسخة ويعرضها في المكتبات، وخلال سنة تباع منها نسختان أو ثلاث، وقليل من الكتاب مَن يقدم على طباعة 1000 نسخة، إلا إذا كان الكاتب مهماً والموضوع مهماً، وفي هذه الحالة يجد الكاتب دار نشر تتبنى كتابه ولا يضطر للطباعة على حسابه بهذه الطريقة المعقدة).

انطلقت، في تلك الفترة العصيبة، عمليات احتيال اقتصادية ذات طابع ثقافي لا تقل سوءاً عن مثيلاتها التي تمارسها الطبقة الطفيلية الصاعدة في القطاعات الأخرى، وهي أن يطبع أحد الناس كتاباً، ويذهب إلى رئاسة مجلس الوزراء، أو القيادة القطرية، ويحصل على تعميم موجه إلى كافة مؤسسات الدولة ذات الطابع الاقتصادي والدوائر الحكومية ذات الطابع الإداري، يطلب منها شراء (اقتناء) هذا الكتاب الذي يوصف بأنه "قَيّم"، وتنطلق، إثر ذلك، عملية ابتزاز منظمة يحصل بموجبها مؤلف الكتاب ومَن يساعده في عملية بيعه على أرباح لا تقل، في بعض الأحيان، عن أرباح تهريب المازوت إلى دول الجوار، مع الإشارة إلى أن هذه العملية تختلف عن التهريب، فهي تجري بشكل مغطى قانونياً، وفي وضح النهار.

استفاد هؤلاء المرتزقة من التحول النوعي في الإعلام السوري الذي قاده أحمد إسكندر أحمد، باتجاهين رئيسيين، أولهما تقديس حافظ الأسد، وثانيهما ذم الإخوان المسلمين، وقد ألفت كتب كثيرة ضمن هذين السياقين.

حدثني صديق مطلع عن الآلية التي كان أحد الكتاب المشهورين يؤلف بموجبها كتابه الذي باع منه ألوف النسخ للمؤسسات والدوائر الحكومية، وحقق من ورائه ثروة طيبة، وهي أنه كَتَب، بخط يده، مقدمة صغيرة، وضع فيها (شوية) إشادة بالقيادة الحكيمة لحافظ الأسد، على (شوية) ذم للصهيونية والإمبريالية والصهيونية وأذيال الاستعمار، على (نتوفة) تعداد للإنجازات، وهجوم على الإخوان، وتاريخهم، وارتباطاتهم المشبوهة.. ثم انتقل إلى متن الكتاب وهنا جاء دور "المقص واللاصق"، إذ كان يضع الورقة أمامه ويكتب في رأسها جملة يصل فيها إلى القول: وقد جاء في افتتاحية صحيفة البعث ليوم.. أن (ويقص الافتتاحية ويلصقها على الورقة)، ويضيف عبارة و"هذا من شأنه أن يعزز صمود سورية بقيادة المناضل حافظ الأسد، مثلما ورد في مقالة فلان الفلاني المنشورة في.. (ويقصها ويلصقها)، دواليك حتى يحصل على كتاب أقرب ما يكون إلى طبيخ الشحاذين، يدفع به إلى وزارة الإعلام، لتوافق عليه تلقائياً، إذ يستحيل أن ترد فيه كلمة واحدة ذات قيمة تثير حفيظة الرقيب العتيد في الوزارة العتيدة..

وهكذا دواليك.