التعبئة القائمة على "الهوية"

2023.04.09 | 06:28 دمشق

التعبئة القائمة على "الهوية"
+A
حجم الخط
-A

كان طيف الظلم المعمم على عموم السوريين مع اختلاف شدته من منطقة لأخرى هو من دفع السوريين إلى الانفجار في ربيع 2011 مطالبين بالكرامة والحرية، هذه المطالب التي جذبت غالبية السوريين لأنها ببساطة كانت حقيقية وتلامس وجدان كل سوري عاش في ظل الأسدية، كما أعطت زخماً كبيرا للتظاهرات وأكسبتها سمعة طيبة بين الرأي العام العربي والدولي، لكن مواجهة النظام الأسدي المفرطة بعنفها ووسائلها الفظيعة خلقت حالة جديدة في البلاد، حالة تقوم على تنميط الآخر بوصفه عدواً وجودياً، لا بد من الخلاص منه، وأول من استثمر في هذا التنميط هو النظام الأسدي، ومن بعده أصحاب الإيدولوجيات الشمولية سواء الوضعية أم السماوية، وتحديداً، قوات (PYD) والفصائل الجهادية الإسلامية التي لاقت رواجاً نتيجة لإيديولوجيتها الشمولية أيضاً وللدعم المقدم لها.

بعد بدء الثورة بقليل ومع نهاية آذار 2011، وصف رأس النظام ومستشاروه الثوار بأنهم "إرهابيون" بوصفهم "الآخر"، كآخر طائفي يعمل على تدمير سوريا من خلال اشتراكه بـ "المؤامرة" الكونية، ونشر في الشوارع لوحات تحمل "طائفتي سوريا" في حين ردّ عليه الثوار بأن "طائفتي هي الحرية". بعد عامين من انطلاقة الثورة والعنف المفرط الذي مارسه النظام وارتكابه أفظع الجرائم بحق السوريين، إضافة لتنميطه السابق للثوار بوصفهم "إرهابيين" دفع إلى تشكيل فصائل إسلامية جهادية سرعان ما انخرطت أيضاً في خطاب التنميط السابق، فوصفت المعركة مع النظام كنظام قمعي يمارس قهره على عموم السوريين بأنها معركة مع "العلويين"، كما وصفت الميليشيات الإيرانية الطائفية التي تدخلت دعماً للنظام بالخطاب نفسه، بأنهم "مجوس" و"روافضة" وهو ما أجج أكثر ساحة التصارع سواء على مستوى الفعل أم الخطاب.

تراجع الخطاب الوطني للثورة نتيجة تزاحم الخطابات القائمة على التنميط سواء العرقي أو المذهبي

وفي السياق نفسه، سحب النظام قواته من بعض المناطق ذات الوجود الكردي، وسلمها بصفقة مشينة مع قوات الاتحاد الديمقراطي (PYD)، الحزب ذو التركيبة الأمنية المشابهة لتركيبة النظام والذي يتبنى إيديولوجية شمولية أيضاً. وغاية الصفقة كانت بوضوح فصل المناطق هذه عن حركة الثورة السورية من جهة، ومن جهة ثانية الوقوف بوجه توسع الجيش الحر إلى تلك المناطق. ومع تسارع الأحداث وظهور التنظيمات الجهادية الإسلامية (داعش) والنصرة، وخطابهما وممارستهما المنحصرين أصلاً بمواجهة الثوار وقوات الجيش الحر أكثر من النظام، وقعت الاصطدامات مع قوات الحزب المذكور، خاصة بعد دخول داعش لعين العرب/ كوباني وما حدث فيها من معركة بدعم من الولايات المتحدة، تكرس خطاب الحزب المذكور ضمن التنميط الثنائي، وبصيغة أقرب إلى صيغة النظام، بوصف "الآخر" بأنهم "إرهابيون"، و"دواعش".

تراجع الخطاب الوطني للثورة نتيجة تزاحم الخطابات القائمة على التنميط سواء العرقي أو المذهبي، بل غدت سوريا ساحة لتقاتل مشاريعهم مدعومة من القوى الإقليمية والدولية، التي رأت فيما يجري في سوريا بأنه لم يعد ثورة، وإنما حرباً أهلية وتصارعا طائفيا وإثنيا، فتراجع الدعم المعنوي والفعلي للثورة ومطالبتها بالتغيير أصبح أمراً من الماضي، وتحولت القضية السورية إلى قضية لاجئين ومهجرين وعمليات إغاثة ونصب خيام، ودخلت سوريا وما جرى فيها بحالة "صراع مجمّد" بعد أن أصبحت مقسمة إلى مناطق نفوذ، لم تتفق بعد الأطراف الراعية على إيجاد حل، خاصة مع تبدل المواقع على الأرض لصالح النظام بدءاً من عام 2017. 

نتيجة لما سبق، تراجع الدعم عن فصائل الجيش الحر، مما دفع بكثيرين من فصائله أو أفراده بالتوجه نحو فصائل جهادية، وبالتالي لم تنج فصائله من ذلك الاستقطاب مع أنه لم يكن بمثل تلك الحدّة التي يتعامل معها الأطراف الثلاث السابقة. بعد اتفاقية آستانا التي نتجت عن حالة تراجع وخسارة حلب الشرقية، غدت العمليات العسكرية للجيش الحر مرهونة بإطار تلك الاتفاقات، مما جعله يتحول نحو الداخل، منصّباً نفسه السلطة الحاكمة بدلاً من دعم سلطات مدنية حرّة، ويشارك بشكل أو بآخر بالخطاب التنميط المذكور، خاصة تجاه الشيعة والأكراد، من دون تمييز بين الميليشيات الطائفية التي أنشأتها إيران، وسلطات حزب الاتحاد الديمقراطي الديكتاتورية.

مع هيمنة حالة الجمود وانسداد الأفق نحو حل مرضٍ لقضية السوريين، يتمثل بالانتقال إلى نظام ديمقراطي يحاكم القتلة، وتهافت الأطراف نحو التطبيع مع نظام القتل، ولكل أسبابه، لكن مناقضة لأهداف السوريين، غدت الفوضى وسيطرة خطاب التنميط سواء الديني أو العرقي ظواهر سائدة في عموم سوريا، إذ لم تكن بعيدة عنها مناطق الشمال السوري، فغير الاتهامات الشائعة في قاموس الاستقطاب، تنتشر حالات الاقتتال والتعدي على المدنيين، الذين أجبروا على المطالبة بإخراج الفصائل خارج أماكن السكن، ووصل الأمر بالبعض إلى رفض وجود تلك الفصائل برمتها، بعد ممارسات "الزعرنة" المتكررة من بعضها، من دون أت تتعرض للحساب.

ما حدث الشهر الماضي، شهر انطلاق الثورة، سواء في عفرين (مقتل أربع أشخاص في جنديرس بمناسبة احتفالهم بعيد النيروز) والاعتداء على الشاب الذي ينحدر من بلدة تير معلا، حمص في دورتموند، ألمانيا كون والدته تنحدر من الطائفة العلوية، حيث لم يشفع له لا سجن والده لعشر سنوات/ كونه معارضاً للنظام ولا موقف والدته المعادي للنظام، وكذلك حوادث القتل المتكررة بدوافع عرقية التي ترتكبها قوات حزب الاتحاد الديمقراطي في مناطق سيطرته، ناهيك عن حالات الفوضى والاقتتال في مناطق الشمال بين الفصائل، يشير كله إلى أن خطاب التعبئة التي انتهجته تلك الأطراف، وأولها نظام الإبادة الأسدي، صار يحقق هدفه: الاقتتال وتنحية المعركة مع ذلك النظام.

لا ينبغي على السوريين الذين ثاروا ضد ظلم النظام الأسدي أن يجعلوا من ممارسات ذلك النظام وخطابه جملة مقارنة لهم، بل عليهم العمل للخلاص من ذلك السرطان

لقد وصلت الثورة بعد عامها الثاني عشر إلى مأزق خطير، ولا شك أن أعداءها وهم كثر وأولهم النظام الأسدي، يريدون لها الانزلاق إلى مواقف تجلب لها الإدانة فقط، والتخلي عن المعركة الأساسية، وهي الخلاص من النظام الأسدي والانتقال نحو نظام ديمقراطي، ولذلك لا ينبغي على السوريين الذين ثاروا ضد ظلم النظام الأسدي أن يجعلوا من ممارسات ذلك النظام وخطابه جملة مقارنة لهم، بل عليهم العمل للخلاص من ذلك السرطان. ومن الواضح أن الضخ الإعلامي القائم على أساس تعميق الصدوع القائمة أساساً في سوريا قبل الثورة، التي عمقها كثيراً عنف النظام الإبادي، له دور ينبغي عدم إهماله، بل غدا من الضروري التصدي له وإدانته والعمل على تخليص الثورة منه، والعودة إلى الخطاب الوطني الديمقراطي للثورة الذي يتلخص بالكرامة والحرية للجميع، وإلا سنشهد تخليا كثيرا من العالم عنا، وقبله فقدان قاعدتها في الداخل التي ترفض مثل تلك التصرفات.