التجاذبات الدولية حول عقدة إدلب والخيارات التركية

2018.10.11 | 15:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أولًا: مقدمة

أظهرت عقدة إدلب تنافس وتوافق مختلف القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في المسألة السورية، فمن جهة برز التجاذب بين المشروع الروسي لسورية المستقبل، الذي مضمونه محاولة إعادة تأهيل نظام بشار الأسد من خلال ثنائية الدستور والانتخابات، والمشروع الغربي الذي يعتبر أن بقاء هذا النظام سيولّد مزيدًا من التطرف والإرهاب في المنطقة والعالم، من خلال إعلان المبادئ للدول السبع (أميركا، بريطانيا، فرنسا، ألمانيا، السعودية، مصر، الأردن) حول حل الصراع في سورية. وقد تجلّى ذلك بحشود البوارج الحربية الروسية والغربية في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط. ومن جهة ثانية، فشل مؤتمر طهران لثلاثي أستانا: روسيا وتركيا وإيران.

في ظل هذه التجاذبات الدولية والإقليمية، والتحديات الداخلية والخارجية، تعمل تركيا على تفعيل دورها الإقليمي، خاصة في سورية، فما هي خياراتها على الصعيدين الإقليمي والدولي؟

 

ثانيًا: رؤية روسيا لمصالحها مع تركيا

تنظر روسيا إلى التعاون العسكري والسياسي مع تركيا على أنه خرق استراتيجي للحلف الأطلسي، لذلك يستغل الرئيس بوتين توتر العلاقات التركية مع حلفائها التقليديين في الغرب للضغط على الرئيس أردوغان. وكذلك تنطوي العلاقات التجارية على مجالات تعاون كبيرة، بما فيها صفقة صواريخ S400 وبناء المحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية. وقد أشار الرئيس بوتين، في المؤتمر الصحفي المشترك مع الرئيس أردوغان في سوتشي يوم 17 أيلول/ سبتمبر إلى الجانب الاقتصادي وقال “نحن نعوّل على تيسير وصول السلع الروسية إلى السوق التركية”.

في هذا السياق، استغلت روسيا فرض العقوبات الأميركية على تركيا للإعلان عن عزمها التعجيل بتسليم تركيا منظومة الصواريخ في العام المقبل، مستغلة الرغبة التركية في اقتناء المنظومة بأقرب وقت، لمعالجة الخلل في أنظمة الدفاع الجوي، علاوة على إضفاء الصدقية على تعهد القيادة التركية بإيجاد بدائل للشراكة غير المتكافئة، بل المهينة مع واشنطن.

تبدو الحسابات الاستراتيجية لروسيا، تجاه تركيا، مختلفة عن حسابات نظام بشار الأسد. إذ إن أهم المصالح الروسية في سورية، في ظل عقدة إدلب، تتمثل في فتح الطرق الدولية، وضمان سلامة القاعدة الروسية في حميميم، وطي صفحة المنظمات الإرهابية في إدلب. كما أن روسيا تُدرك أن مصالحها مع تركيا أهم من إعادة إدلب إلى نظام بشار الأسد، إضافة إلى إدراكها أن تركيا لا يمكن أن تتساهل إزاء نفوذها في سورية، أقله في الشمال السوري لتوفير درع حماية لقواتها في منطقتي “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، ومنع قيام “كانتون” كردي سوري على حدودها الجنوبية، وكذلك وجودها على طاولة المفاوضات النهائية لرسم مستقبل سورية.

بدت روسيا متفهمة للمصالح التركية، بهدف الحصول على أكبر ما يمكن من أوراق القوة في المسألة السورية، من خلال الحد من دور التحالف الأميركي – الكردي، في إطار الصراع الأميركي – الروسي. وكذلك محاولة جذب تركيا لترويض الجماعات المسلحة في الشمال السوري، وإذا أمكن دفعها للتصادم مع الأميركيين في شمال شرقي سورية، حيث تواجد قوات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي “قوات سورية الديمقراطية – قسد” تحت المظلة الأميركية، وتحرص روسيا على عدم دفع تركيا إلى إعادة العلاقات مع الغرب إلى سابق عهدها، ما ينطوي على احتمال نسف الحل الروسي في سورية.

لقد جاء اتفاق سوتشي بين الرئيسين بوتين وأردوغان، حول منطقة عازلة منزوعة السلاح بين 15 إلى 20 كيلو مترًا، بضمانة البلدين، ملبّيًا لمصالح كلا الطرفين. حيث يبدو واضحًا أن كلًا منهما حاول أن يستخدم الآخر لتحقيق مصالحه في المسألة السورية.

 

ثالثًا: رؤية أميركا لمصالحها مع تركيا

مع سقوط جدار برلين في عام 1989، وبداية نهاية الحرب الباردة، تراجع دور تركيا في الحسابات الأميركية، فيما عدا معادلات التوازن مع روسيا. وقد جاءت الصفقة التركية – الروسية لشراء منظومة الدفاع S400 لتزيد التباعد بين الطرفين الأميركي والتركي، لما تنطوي عليه الصفقة من ضرر لمنظومة الحلف الأطلسي، باعتبار أن الأسلحة ليست كغيرها من السلع التجارية.

كما أن محاكمة القس الأميركي أندرو برونسوني، وتحدي العقوبات على إيران، فاقمت من الخلافات بين البلدين. إذ يبدو أن مساعي وزير الخارجية الأميركي السابق، ريكس تيلرسون، في شباط/ فبراير الماضي، لم تنجح في إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه سابقًا بين حليفين عضوين في الحلف الأطلسي، على الرغم من اعتبار تركيا، من قبل بعض الباحثين في مراكز التفكير الأميركية، إحدى ركائز السياسة الأميركية في الشرق الأوسط والبلقان وآسيا الوسطى.

بالنسبة إلى الولايات المتحدة ليس من الاستراتيجي أن تتخلى عن تركيا بسبب القضية الكردية؛ فتركيا تحتل المرتبة السابعة عشر في ترتيب أكبر اقتصادات العالم، ولديها واحد من أكبر الجيوش في الشرق الأوسط. وفي سورية نفسها، لا يمكن تقديم الإمداد للجنود الأميركيين الذين يبلغ عددهم حاليًا نحو ألفي جندي تقريبًا في شمال شرق البلاد من دون الحصول على إمكانية دخول برية وجوية من تركيا.

ما زاد في توتر العلاقات بين البلدين إعلان الرئيس ترامب رفع التعرفة الجمركية على بعض المنتجات الواردة من تركيا، ولم يتأخر رد الرئيس أردوغان، الذي أكد في 11 آب/ أغسطس أن تركيا لن تخضع للتهديدات، إذ قال “لا يمكنهم إخضاع هذه الأمة عبر لغة التهديد إطلاقًا، نحن نفهم لغة القانون والحق”. وشدد على أن “المسألة ليست مسألة دولار أو يورو أو ذهب، وإنما حرب اقتصادية ضدنا، واتخذنا التدابير اللازمة لمواجهتها”. وأضاف “مهما فعلتم لن نتخلى عن أهدافنا الاقتصادية، ولن نتوقف عن سحق الإرهابيين أو نتراجع عن سياساتنا المتعلقة بسورية والعراق”.

وقبلها بساعات، نشر أردوغان مقالًا في صحيفة (نيويورك تايمز) الأميركية، حذر فيه الولايات المتحدة، وكتب “على واشنطن أن تتخلى عن فكرتها الخاطئة بأن العلاقات بين الطرفين يمكن أن تكون مخالفة لمبدأ الند للند، وأن تتقبل وجود بدائل أمام تركيا”، مؤكدًا أنه “في حال لم يبدل المسؤولون الأميركيون هذه النزعة أحادية الجانب والمسيئة، فإن أنقرة ستبدأ بالبحث عن حلفاء جدد”. ولفت إلى أن “الشراكة بين البلدين واجهت في الآونة الأخيرة اختبارًا بسبب خلافات سببتها الولايات المتحدة”، وأبدى أسفه لأن جهد بلاده “لتصحيح هذا التوجّه الخطر ذهبت أدراج الرياح، وإن لم تستطع الولايات المتحدة إثبات أنها بدأت باحترام السيادة التركية، وتفهم المخاطر التي يواجهها شعبنا، فإن شراكتنا قد تكون عرضة للخطر”.

يبدو أن واشنطن تُدرك أن تركيا تطمح إلى متابعة ما بدأته في عملية “غصن الزيتون” للوصول إلى منبج، ما دفع تيلرسون للقول “تحالفنا ليس شكليًا، وليس مرتبطًا بمصلحة موقّتة. إنه تحالف تم اختباره زمنيًا، وهو مبني على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل”، وأضاف “الولايات المتحدة وتركيا لن تتحركا بعد الآن كل بمفردها”. ونص البيان المشترك الذي جاء بعد لقاءات تيلرسون في أنقرة على “إنشاء آلية لحل الخلافات” للوصول إلى حل وسط مع تركيا بشأن منبج، وتعزيز العلاقات بين البلدين. مع العلم أن القيادة التركية اقترحت انسحاب الوحدات الكردية من منبج وأن تحل محلها قوات تركية وأميركية.

يبدو أن قدرة أميركا على التأثير في السياسات التركية محدودة، خاصة بعد رفض الرأي العام التركي للسياسات الأميركية ضد المصالح القومية العليا، إذ كان لافتًا إعراب الكتل النيابية في البرلمان التركي، بما فيها حزبا المعارضة: حزب الشعب الجمهوري، والحزب الصالح، عن رفضها قرار العقوبات الأميركية.

لكن، تشير زيارة المبعوث الأميركي الخاص بالمسألة السورية جيمس جيفري إلى أنقرة، في 4 آب/ أغسطس الماضي، إلى إمكانية عودة الدفء إلى العلاقات الأميركية – التركية، من خلال محاولة انخراط تركيا في المشروع الأميركي المناوئ لروسيا، بعد تحريك السياسة الأميركية حيال المسألة السورية، خاصة بعد تأكيده على بقاء القوات الأميركية في شمال شرقي سورية، ومحاولة تجاوز الخلاف حول أكراد “حزب الاتحاد الديمقراطي”، والحزم مع روسيا بشأن حدود إمكانياتها في سورية، وإخراج إيران من سورية.

وخلال يومي 6 و7 أيلول/ سبتمبر، زار جيمس جيفري أنقرة مرة أخرى، وأجرى مباحثات مطولة مع وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو ووزير الدفاع خلوصي أكار تركزت حول الشأن السوري، ولا سيما ما يتعلق بملفي إدلب ومنبج. وقد حمل معه عروضًا للأتراك تتضمن وقف مسار التعاون مع روسيا وإيران بشأن إدلب، قبيل لقاء ثلاثي أستانا في طهران، على أرضية التأسيس لتفاهم تركي مع الخطة الجديدة التي أعلنتها واشنطن في 18 آب/ أغسطس بشأن تأكيد استمرار وتفعيل المشروع الأميركي المناوئ لروسيا في إدلب، وهو المشروع الذي يتضمن ثلاثة مرتكزات: إرباك الحل الروسي للأزمة السورية، وإنهاء أي علاقة للرئيس الأسد بمستقبل سورية، وإخراج إيران كاملًا من سورية.

وقد حاول وفد الكونغرس الأميركي إلى تركيا إقناع القيادة التركية بالتخلّي عن صفقة S400 مع روسيا، مقابل تسليم مقاتلات F35 لتركيا، على الرغم من قرار الكونغرس بحظر بيعها لتركيا بموجب قانون الموازنة للعام المقبل.

يبدو أن أميركا، منذ سنوات، تبحث عن إعادة تعريف حدود التحالف التركي – الأميركي. كما أن تركيا تبحث هي الأخرى عن أسس هذا التحالف، وفي هذا السياق ينبغي أخذ تصريحات الرئيس أردوغان بجدية، في مقاله سابق الذكر، حيث دعا إلى إعادة تعريف العلاقات مع أميركا “بما يجعلها تقوم على الشراكة المتساوية التي تخدم مصالح الجميع”.

كما اعتبر المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كالين، أن من الممكن “إنقاذ العلاقات وتحسينها إذا نظرت الإدارة الأميركية بجدية إلى مخاوف تركيا الأمنية”.

في الواقع، ثمة مصالح كبيرة تجمع البلدين، تحد من إمكانية القطيعة بينهما، فمثلًا لا تستطيع الولايات المتحدة الأميركية احتواء النفوذين الروسي والإيراني في الشرق الأوسط اعتمادًا على “إسرائيل” فقط، وإنما هي أحوج ما تكون إلى الدور التركي.

وعلى الرغم من ذلك، ليس من المحتمل أن تنتهي الأزمة بين البلدين، لأن الخلافات عميقة وتتعلق بأولويات كل منهما، من العلاقة مع روسيا إلى الموقف من الدعم الأميركي لأكراد “حزب الاتحاد الديمقراطي” ومستقبل سورية، ولكن من اللافت أن كليهما يحرص على إدارة الخلافات بينهما بصورة هادئة، من مؤشراتها وجود نية تركية قريبة لإطلاق سراح الراهب الأمريكي أندرو برانسون، إذ نقلت صحيفة (وول ستريت جورنال) الأمريكية في 24 أيلول/ سبتمبر، عن مصادر تركية وأميركية قولها: إن السلطات التركية تبعث برسائل تشير إلى أنها ستطلق سراح القس الأميركي الشهر المقبل وتسوية الخلافات مع الولايات المتحدة.

وهكذا، دخل التنافس الروسي – الأميركي على تركيا مرحلة جديدة منذ التدخل الروسي في سورية عام 2015، وخاصة بعد توتر العلاقات الأميركية – التركية، إضافة إلى حديث الرئيس أردوغان عن أسواق جديدة وشراكات جديدة وحلفاء جدد.

 

رابعًا: الخيارات التركية

منذ نهاية الحرب الباردة، وانتفاء الحاجة الأطلسية إلى تركيا في مواجهة الاتحاد السوفياتي، بدأ التفكير التركي يتجه نحو إعادة تموضع استراتيجي، بهدف توظيف الموقع الجيو–سياسي بما يعزز قوة الدولة التركية.

تعتقد القيادة التركية بإمكانية تحقيق مكاسب من التنافس الروسي–الأميركي عليها، سواء باستغلال حاجتهما إلى موقعها الجيو-سياسي أو باستخدام أوراق قوتها السورية.

وترى أن أبرز التهديدات على أمنها القومي تكمن في احتمال سيطرة نظام بشار الأسد على إدلب، وتتوقع أن ما سيعقب ذلك مباشرة ضغوط على الجيش التركي للانسحاب من عفرين والباب وجرابلس. هذه الخشية التركية بدت واضحة في تصريحات الرئيس التركي رجب طيب اردوغان في قمة طهران عندما قال ردًا على تأكيد بوتين وروحاني على “حق الأسد ببسط سيطرته على كامل الأراضي السورية”، إذ قال “تركيا مصممة على حماية وجودها في المنطقة إلى حين ضمان وحدة سورية السياسية والجغرافية والاجتماعية بالمعنى الحقيقي”.

لكن تركيا تعتقد أن التدخل العسكري الروسي في سورية أنتج موازين قوى جديدة، فليس سهلًا عليها أن تغض الطرف عن الوجود الروسي، خاصة بعد أن تعقدت علاقاتها مع الولايات المتحدة، إذ لا يمكن لها أن تتخلى عن مصالحها في سورية، التي تشكل جزءًا من أمنها القومي، ويبدو أن صفقة S400 تعبير عن تلاقي مصالح حول مستقبل سورية.

كذلك، لوّح الرئيس أردوغان، في قمة طهران، بالانسحاب من مسار أستانا، وقد يكون تهديده مرتبطًا برسائل واشنطن، التي أعلن عنها المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري، عن استعداد بلاده إلى الرد الصارم على الحملة ضد إدلب. وهذا تغيّر في الخطاب الأميركي، الذي كان يلوّح بالرد العسكري، فيما إذا استخدم نظام بشار الأسد السلاح الكيماوي.

من هنا، فإن اتفاق سوتشي بين الرئيسين أردوغان وبوتين، في 17 أيلول/ سبتمبر، بإنشاء منطقة منزوعة السلاح بعمق يتراوح بين 15 – 20 كيلو متر، يوفر الحماية لقاعدة حميميم الجوية الروسية، ويساعد في فتح الطريق الدولي بين اللاذقية وحلب وبين حلب ودمشق. أما تركيا فقد حصلت على إقرار روسي بمصالحها في الشمال السوري، بعد أن تمكنت من إقناع روسيا بإلغاء فكرة الهجوم العسكري على إدلب، ما يعدّ نجاحًا كبيرًا للديبلوماسية التركية المسنودة بالحشودات العسكرية في النقاط التركية الاثني عشر، داخل إدلب والشريط الحدودي مع سورية. والأهم بالنسبة إلى تركيا أن الاتفاق يمنع سيطرة نظام بشار الأسد على إدلب، وينهي وصول الميليشيات الإيرانية إلى الحدود التركية.

استبق الرئيس التركي لقاء سوتشي بالإعراب عن ثقته بأن البيان الذي سيصدر عن قمة سوتشي “سيعطي المنطقة أملًا جديدًا”. وأضاف: “تعاوننا مع روسيا على الصعيد الإقليمي من شأنه أن يبعث الأمل في المنطقة، وأنا واثق بأن عيون العالم ومنطقتنا تتطلع إلى قمة سوتشي”.

يبدو أن الرئيس أردوغان نجح في استغلال حاجة روسيا إلى تعميق التوتر بين تركيا وأميركا، من أجل إكساب العلاقات الروسية – التركية وظائف تشمل آسيا الوسطى إلى جانب الشرق الأوسط. ولكنّ التقارب بين البلدين -في الحصيلة- لا ينطوي على تحالف استراتيجي، وإنما هو تكتيكي، فرضته تطورات الحيثيات السياسية والعسكرية للمسألة السورية وتأزم العلاقات التركية مع الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي.

في المقابل، تبدو القيادة التركية حريصة على تعزيز علاقاتها الاستراتيجية المتشعبة مع الحليف الأميركي، في وقت لا تبدو واشنطن مستعدة للتضحية بتركيا ودفعها نحو مزيد من التقارب مع روسيا والصين وإيران.

على الرغم من السجال الحاد للرئيس أردوغان مع الرئيس ترامب حول العقوبات الأميركية على الاقتصاد التركي، وحول القس الأميركي أندريه برانسون، فإن مقالة أردوغان في “وول ستريت جورنال” والتي تحمل عنوان “على العالم أن يوقف الأسد”، جاءت تهديدًا لكل من روسيا وإيران، بعد فشل قمة طهران، وانطوت على مناشدة أصدقائه في أميركا وأوروبا للتدخل لوقف أي هجوم على إدلب، يشكل كارثة عليهم، إذ كتب فيها “على المجتمع الدولي أن يعي مسؤوليته حيال هجوم إدلب، لأن كلفة المواقف السلبية ستكون باهظة، ولا يمكننا ترك الشعب السوري لرحمة الأسد”، وأضاف “إن هدف النظام من شن الهجوم ليس محاربة الإرهاب، وإنما القضاء على المعارضة من دون تمييز”. ولفت إلى أن “إدلب هي المخرج الأخير، وإذا فشلت أوروبا والولايات المتحدة في التحرك فإن العالم أجمع سيدفع الثمن، لا الأبرياء السوريين فحسب”. وذكّر أن بلاده “فعلت كل ما بوسعها من أجل وقف هذه المجزرة، وحتى نتأكد من نجاحنا، على بقية العالم أن ينحّي مصالحه الشخصية جانبًا، ويوجهها إلى حل سياسي”.

وشدد أردغان على أن أنقرة “تؤكد أهمية المساعي الديبلوماسية من أجل التوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية”. ولفت كذلك إلى أن الولايات المتحدة “تركز فقط على التنديد بالهجمات الكيماوية التي تشهدها سورية، لكن عليها أن ترفض أيضًا عمليات القتل التي تتم بالأسلحة التقليدية المسؤولة عن موت الكثيرين”، وختم “المسؤولية عن وقف هذه المجزرة لا تقع فقط على عاتق الغرب، بل معني بها أيضًا شركاؤنا في عملية آستانا، روسيا وإيران المسؤولتان بالمقدار ذاته عن وقف هذه الكارثة الإنسانية”.

من جهته شدد وزير الخارجية التركي، خلال حديثه حول العلاقات بين أنقرة وواشنطن في 28 آب/ أغسطس على أن “علاقاتنا مع أميركا ضرورية، ويجب تطويرها، عبر وضع لغة التهديد جانبًا، فهذه اللغة غير مقبولة لتطبيع العلاقات، كما يجب استبعاد الشروط المسبقة.. تركيا الآن في حاجة ملحة وعاجلة إلى أنظمة دفاع جوي، وقد طلبت بداية من حلفائها، وعلى رأسهم الولايات المتحدة، ولكن هذه الدول لم تبعنا إياها، علمًا أن بلادي في حاجة إليها”. ولفت إلى أن “هناك اتفاقيات على المديين المتوسط والبعيد مع الحلفاء، وسيتم الانتقال إلى الإنتاج المشترك، ولكن ليس هناك أي حليف لتركيا قادر على تلبية طلبها العاجل في الوقت الحالي”.

وأكد أن “تركيا شريك أساسي في برنامج تصنيع مقاتلات F35، وهو مشروع متعدد الأطراف، موضحًا أن مقاربة “أنا أريد فتخرج تركيا” هي مقاربة خاطئة، لافتًا إلى أنه “إذا تصرفت الولايات المتحدة مثل رعاة البقر فسيكون هناك رد على ذلك، وإذا قالت واشنطن أنا أفعل كل ما أريد، مثلما يحدث في أفلام الكاوبوي، فسيكون لنا رد على ذلك”.

وذكر جاووش أوغلو أن علاقة بلاده مع روسيا “ليست بديلة عن العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، أو الولايات المتحدة، فتركيا تحرص على التوازن في سياستها الخارجية”، مشددًا على أن “تركيا ليست ولاية أميركية، وليست مضطرة إلى الموافقة على أي قرار غير عادل صادر من دولة تجاه أخرى”، في إشارة إلى العقوبات على إيران.

وعلى الرغم من التصريحات السلبية من الطرفين، إلا أن الموقف التركي الأخير على لسان وزير الخارجية التركي جاويش أغلو، على هامش المؤتمر العاشر للسفراء في العاصمة التركية أنقرة، في أوائل آب/أغسطس الماضي، يرى أن تركيا لا تزال منفتحة لمحادثات مع واشنطن خالية من لغة التهديد “إن تركيا منفتحة لإجراء محادثات لحل جميع المشكلات العالقة مع الولايات المتحدة كشركاء على قدم المساواة، على الرغم من كل ما جرى، بشرط عدول واشنطن عن لغة التهديد”، وأضاف “إن المشكلات التي شهدتها العلاقات التركية مع بعض دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، نتيجة طبيعية لنظرة التعالي وأسلوب الإملاء الذي تمتلكه هذه الدول، وإن علاقاتنا مع الاتحاد الأوروبي تتطور مرة أخرى على أسس أكثر صلابة، والمشكلات التي تواجه العلاقات التركية الأمريكية تسري أيضًا على علاقات واشنطن مع البلدان الأوروبية”.

لكنّ الرئيس أردوغان، في مؤتمر صحافي في مطار أتاتورك، قبيل توجهه إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال “المشكلة الأكبر بالنسبة إلى مستقبل سورية حاليًا هي المستنقع الإرهابي المتنامي شرقي الفرات تحت رعاية بعض حلفاء تركيا”.

وفي تصريحات أخرى، في 24 أيلول/ سبتمبر، من نيويورك، هدد بأن بلاده تعتزم اتخاذ خطوة مهمة تجاه مناطق شرقي الفرات شمالي سورية، قائلًا إن هذه الخطوة “ستكون شبيهة بالخطوات المتخذة في مناطق درع الفرات وغصن الزيتون”.

وبالتزامن مع ذلك، طلب أردوغان بشكل مباشر من روسيا دعمًا مباشرًا في الحرب على قوات سورية الديمقراطية “قسد”، إذ قال في مقال له نشر في صحيفة “موميرسانت” الروسية “تركيا تنتظر دعمًا روسيًا، لمحاربة التنظيمات الإرهابية التي يتركز وجودها حاليًا شرقي نهر الفرات”. وشدد على أن تركيا “لم ولن تسمح في أي وقت من الأوقات، بوجود أي من الكيانات الإرهابية على حدودها”.

وكان، خلال المؤتمر الصحافي مع بوتين في قمة سوتشي، أكد على أنه اتفق مع بوتين على أن “التهديد الأكبر لمستقبل سورية ينبع من أوكار الإرهاب شرق الفرات أكثر من إدلب”.

ومن اللافت للنظر أن وزير الخارجية الروسية لافروف كان قد صرح، في 21 أيلول/ سبتمبر، أن “الخطر الرئيس على وحدة سورية ينطلق من المناطق الشرقية”، حيث “يتم تشكيل هياكل حكم ذاتي في المناطق الواقعة فعليًا تحت السيطرة المباشرة للولايات المتحدة”.

وهكذا، تبدو الدولة العميقة في تركيا مدركة أن العلاقات مع الغرب، بشقيه الأميركي والأوروبي، مهما بلغ التقارب بينها وبين روسيا وإيران، أقرب إلى مصالحها الاستراتيجية. إذ إن ابتعادها عن حلفائها التاريخيين في الغرب يمكن أن يفقدها القدرة على المناورة، ويجعلها أسيرة مسار لا يصب في مصلحة خياراتها الذاتية، لأنه ينطوي على خدمة إعادة التموضع الروسي في المنطقة، وإمكانية التوافق الأميركي – الروسي على حساب مصالحها الاستراتيجية.

يبدو أن الغرب بات يدرك أن تركيا تعمل من أجل بناء دولتها القوية، بحيث لا تبقي مستقبلها بيد هذا الطرف الدولي أو ذاك. وأن التقارب التركي مع روسيا ليس بديلًا عن التحالف مع الغرب، وإنما هو لتحقيق التوازن في العلاقات الدولية لتركيا.

إن السياسة التركية حققت في سورية مصالح لم يكن من الممكن تحقيقها لولا التفاهم مع روسيا، بداية من عملية “درع الفرات” ومرورًا بعملية “غصن الزيتون” ووصولًا إلى الاتفاقية حول إدلب في سوتشي.

ولكن لا يجمع تركيا مع روسيا أي أفق استراتيجي، فموسكو مهتمة بتصدير السلاح، وهمها الأساسي الحلول محل أميركا في السطوة والهيمنة، حيثما كان ذلك ممكنًا.

لقد التفتت تركيا إلى الموقف الأوروبي المتميز من العقوبات الأميركية، إذ أشار وزير المالية في مقالة له نشرتها مجلة فورين بوليسي الأميركية، في 9 أيلول/ سبتمبر، “أصدقاؤنا الأوروبيون، بمن فيهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أدلوا بتصريحات تظهر بوضوح أن موقف واشنطن خطير وخاطئ”. ولم يتأخر التعليق الأوروبي على ما قاله الوزير التركي، إذ قال وزير الخارجية الألماني هايكو ماس “من الواضح لجميع الدول الأعضاء أن أنقرة شريك استراتيجي هام للاتحاد الأوروبي”.

وبعد أيام فقط من رسائل الدعم الاقتصادية المباشرة التي أوصلتها ألمانيا وفرنسا إلى تركيا، دخلت بريطانيا على الخط معلنة نيتها تعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع تركيا، التي تعاني من أزمة اقتصادية بفعل العقوبات الأميركية وغيرها من المشاكل الاقتصادية الداخلية.

وبلغة الأرقام، تقيم تركيا مع الاتحاد الأوروبي علاقات تجارية واقتصادية أوسع بكثير جدًا من تلك القائمة مع الولايات المتحدة الأميركية، فبينما لم يتجاوز حجم التبادل التجاري بين أنقرة وواشنطن الـ 20 مليار دولار، اقترب حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول الاتحاد الأوروبي من 160 مليار دولار، كأكبر شريك تجاري لتركيا حول العالم، فيما تتصدر دوله أيضًا قائمة أكثر الدول التي تقيم تبادلًا تجاريًا مع تركيا حتى بشكل منفصل.

وهكذا، فإن العلاقات التركية – الغربية محكومة بالتوصل إلى تفاهمات جديدة، تعيد إرساء العلاقات على أسس جديدة، تبقي تركيا جزءًا من الحلف الأطلسي. ويبدو أن هذه رغبة تركية وأوروبية وأميركية، فتركيا تدرك أن علاقاتها مع الغرب هي أساس تطورها الحديث.

 

خامسًا: خاتمة

تركيا دولة إقليمية كبرى تشغل منطقة عازلة بين أوروبا والشرق الأوسط من جهة، وبين روسيا والشرق الأوسط من جهة أخرى. وهي تتمتع بوضعية تحقق التوازن مع إيران التي يتنامى نفوذها في عدة أقطار عربية.

إن مصالح تركيا في سورية أعادتها إلى لعبة التوازن بين موسكو وواشنطن، مستندة إلى تطمينات أميركية بالحد من الطموح الكردي، في حين أن روسيا لم تشأ تركها تعود إلى الحضن الأميركي بالكامل بسبب الخلاف على إدلب، وبسبب احتمالات الرد الأميركي العسكري على محاولة حليفيها، النظام السوري وإيران، اقتحامها ولو لم يُستخدم الكيماوي.

يبدو أن المقتلة السورية ستمر بمرحلة جديدة، تتسم بتشابك الصداقات والعداوات بين القوى الإقليمية والدولية الحاضرة في المشهد السوري. ويبدو من ملامحها اتفاق إقليمي ودولي لإنهاء حالة الاقتتال، والتوجه نحو الحل السياسي بعد اتفاقية سوتشي.

للاطلاع على المادة من المصدر اضغط هنا