icon
التغطية الحية

التبادل الثقافي التركي العربي.. بين إرث التاريخ ومتطلبات التجديد

2022.07.02 | 08:54 دمشق

arab- turk
+A
حجم الخط
-A

رغم أن علائق التواصل بين تركيا والوطن العربي، تعود إلى القرن الثامن الميلادي، بدخول الشعب التركي في دين الإسلام، فإن هذه العلائق لم تأخذ، شكلها المباشر، كصيغة للتبادل والتأثير والمثاقفة، إلا بحلول العام 1516، وهذا يعني أن هناك ما يزيد على الأربعة قرون من التواصل والتبادل الثقافي المباشر بين الشعبين المتجاورين.

إذاً فصيغة العلاقة بين الشعبين، التركي والعربي، كانت قد بدأت ثقافية من الأساس وعلى مبدأ الإرسال والاستقبال المعرفي– الثقافي، بعرض العرب للدين الإسلامي، كمنهج ثقافي روحي ونظام علاقات إنسانية، وقبول الشعب التركي لهذه الثقافة الجديدة (الدين الإسلامي) عن اقتناع وإيمان ومن دون إكراه أو فرض (أو بقوة السيف)، كما يقول المؤرخ التركي (توفان غوندوز) في مقاله المهم (كيف دخل الأتراك الإسلام؟). وهذا يعني أن ثمة إرثاً تاريخياً عميقاً وطويلاً (من المعرفية الثقافية - الدينية) هو الذي مهد لعملية التلاقح والتبادل الثقافيين اللاحقين، واللذين بدآ عام 1516، بتولي السلطان سليم الأول حكم المشرق العربي.

إذاً نحن أمام ما يقرب من ثمانية قرون من عملية التماس والتجاور ما بين الشعبين العربي والتركي، وهذا إرث طويل جداً في عمر التاريخ والحساب الحضاري أيضاً، وكان من المفترض أن يُحدث هزات معرفية وانقلابات ثقافية كبرى في حياة ثقافتيهما، وخاصة بعد تولي الدولة التركية حكم البلاد العربية بطريقة مباشرة، منذ العام 1516، إلا أننا نلاحظ أن هذه العلاقة ظلت محصورة في حكم المجاورة فقط ومن دون أن تتعداها إلى وضع التأثير والتلاقح العميقين اللذين كان من المفترض أن يكونا نتيجة حتمية وحصيلة تاريخية لهذه الحقبة الزمنية الطويلة.

القواعد والأسس

التفاعل مظهر طبيعي من مظاهر حياة التجمعات والمجتمعات الإنسانية، وشكل أساسي من أشكال التواصل بين مكوناتها وأفرادها. وهذا يعني أن التبادل والتلاقح الثقافيين سمة إنسانية، اجتماعية وحضارية، تفرضها عملية التطور الطبيعية للانساق الثقافية لحياة كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية.

يقول عالم الاجتماع ابن خلدون: "إن المجتمعات المختلفة ظلت في حاجة إلى التواصل، رغم وجودها وتشكلها؛ وذلك يتجسد عبر توثيق علاقاتها بغيرها من المجتمعات خِدمةً لمصالحها". ويضيف: "أن هذه المجتمعات أول ما لجأت إليه هو الاتصال مع المحيط الجغرافي المُجاور، ثم ابتكرت وسائل أُخرى للتواصل، وواظبت على تحسينها وتطويرها". 

وكانت النتيجة بالمُحصّلة، الوصول إلى ظاهرة التفاعل الثقافي بين الشعوب والمجتمعات الإنسانية، وهذا يعني أن عملية التلاقح والتبادل الثقافي حاجة ملحة وليس ترفاً يمكن الاستغناء عنه.

الثقافة وأنساقها هي المحرك الفاعل الرئيس في حياة الشعوب، وعليه فإنها تمثل قاعدة التطور الأساس ومنطلق التطور الحضاري.

كما إن حالة الانكفاء على (الذات الثقافية) والتقوقع في (نسق الثقافة الجوانية أو الداخلية ذات اللون الواحد) ينتج حالة من التحجر والانغلاق والقطيعة مع المحيط الخارجي، وهذا هو أحد أهم الأسباب في صناعة الآخر (الثقافي) أو العدو الثقافي والجار المُختلف معه، وهذه هي الحالة التي يشبهها (دومينيك مالي) بحالة الزوجين اللذين يعيشان في حيز واحد من دون أن يتفقا أو يقبل أحدهما الآخر، لا لشيء سوى لأنهما لم يفتحا الأبواب ويتواصلا بجدية، على أساس القبول ومن دون شكوك وأحكام مسبقة.   

الثقافة وأنساقها هي المحرك الفاعل الرئيس في حياة الشعوب، وعليه فإنها تمثل قاعدة التطور الأساس ومنطلق التطور الحضاري. يقول المفكر والباحث تايلور في تعريفه للثقافة: "هي المنظومة المعقدة والمتشابكة التي تتضمن اللغات والمعتقدات والمعارف والفنون والتعليمات والقوانين والدساتير والمعايير الخلقية والقيم والأعراف والعادات والتقاليد الاجتماعية والمهارات التي يمتلكها أفراد مجتمع معين"، وعليه فإن عملية الانفتاح الثقافي والتلاقح مع الثقافات الأخرى تعني الوقوف والانفتاح على كل هذه العناصر لأي شعب من الشعوب والتلاقح معها والتأثر بها والأخذ منها، وهي الحالة المثلى لسيرورة الحياة والثقافة البشريتين.

الأسس والمقتربات

كما أشرنا في بداية هذا المبحث، فإن الثمانية قرون من عمر العلاقات التركية العربية قد كرست الكثير من المقاربات والأسس المتينة لقيام ألوان كثيرة من علاقات المثاقفة والتلاقح ما بين الثقافتين التركية والعربية، وخاصة أن ثمة الكثير من أسس ومقتربات التماثل والامتزاج بين الثقافتين، والتي يشير إليها الباحث التركي (بكير قاياباشي) الأستاذ في جامعة أديمان، في محاضرة له في المملكة المغربية بقوله: "إن الأتراك كانوا يعتقدون أنه كي يصبح التركي مسلماً جيداً لا بد أن يتعلم القرآن الكريم، لذا تعلموا العربية، قبل أن يترجموا القرآن إلى التركية بالأبجدية العربية، وبعدها ترجموا العلوم الإسلامية والأدب العربي". ويضيف الباحث بكير "أن من مظاهر التفاعل الثقافي العربي التركي أن اللغة التركية تضم نحو 5 آلاف كلمة عربية، واللهجات العربية تتضمن كلمات تركية كثيرة". وأكد على "أن الفضل في هذا التفاعل بين الثقافات يعود إلى القرآن الكريم، فالقرآن كتابنا وكلماته كلماتنا.. نحن الأتراك تأثرنا به وبالعربية، لكن احتفظنا بأصولنا"، وهو بهذا يؤكد على أهم شروط التلاقح الثقافي وهو التفاعل والأخذ من الثقافات الأخرى من دون المساس بثوابت الهوية الوطنية والعناصر التي تميزها في ثوابتها الثقافية التي تميزها عن غيرها من الهويات والشعوب.

مدى الأفق ومساحة التطلع

من نافلة القول أن نذكر أن مدى أفق التلاقح الثقافي بين الثقافتين التركية والعربية هو دون مساحة التطلع التي يتشوّف إليها المثقفون في كلا الثقافتين. فنحن نجد، ورغم زمن الثمانية قرون التي تربط بين الشعبين والثقافتين، نجد أن مفاعيل وفواعل العمليات الثقافية بين الشعبين ليست بحجم مساحة هذا التأريخ وإرثه. فهذه المفاعيل تكاد تكون قد توقفت منذ ما قبل تغير شكل الدولة في تركيا إلى نظام الحكم الجمهوري، بسنوات طويلة، وبطريقة يراها المثقفون العرب كصيغة تجاهل للثقافة العربية. فحركة الترجمة من اللغة العربية إلى اللغة التركية تكاد تكون توقفت عند حدود كتب التراث القديم ولم تلتفت إلى الكتاب الفكري والأدبي الحديث، وهذا ما خلق قطيعة ثقافية ومعرفية بين أجيال القرن العشرين ومفتتح القرن الحادي والعشرين من الأدباء والمفكرين العرب، الذين لا يعرف المثقفون الأتراك عنهم إلا النزر اليسير.

في حين، وبمقابل هذا، نجد أن دور النشر العربية، وعلى بساطة إمكانياتها، كونها مؤسسات فردية لا تلقى الدعم، قد اهتمت بترجمة الأدب التركي الحديث، وفي حقل الرواية بالذات، وعرفت المثقف والقارئ العربي بأهم الأسماء الروائية التركية، حديثها وقديمها. ولكن، وكما يقول المستعرب الفرنسي (آر بلانشير) ما زال (البستان السري) للثقافتين بحاجة للكشف عن مكنوناته النفيسة، من أجل تحقيق المزيد من عمليات المثاقفة والتلاقح بين الثقافتين.

كما أن أساليب التواصل ما بين الثقافتين بحاجة لعملية تحديث على مستوى التعاطي والتفاعل، كي تخرج من حالة الانكفاء التي عاشتها خلال القرن العشرين، وهذا يعد من بين أهم وسائل تكوين ثقافي جديد وببنى مفهومية غير متحيزة. ويأتي هذا ضمن فهم أن الحراك الفاعل والمؤثر بين الثقافات، يقوم على مبدأ أن تبادل أي ثقافتين يجب أن يقود إلى عملية ثقافية جديدة، على مستوى الفهم والفاعلية والقبول، وأيضاً على فهم أن التبادل الثقافي يقوم على مفهوم دمج الثقافات، وهكذا يقود إلى ثقافة جديدة، انسجاماً مع الرؤية التي وضعها عالم الانثروبولوجيا الكوبي (فيرناندو اورتيز) في عام 1947، والتي تقع داخل إطار هذا الفهم.