التابوهات والصمت المقرَّر

2022.04.04 | 06:13 دمشق

ipnk3.jpg
+A
حجم الخط
-A

تبدو العلاقة بين الجنس والدين والسياسة من أكثر العلاقات إثارة للإشكاليات، وذلك على الرغم من أنَّ وجودها يوميٌ في حياتنا، فمن منَّا لا يتعامل مع هذه الأقانيم الثلاثة بوصفها موضوعاً حيوياً نقاربه في كلِّ يوم، وبكلِّ تفاصيله الشائكة؛ لأنَّها تتعلَّق بأبسط الحاجات الجسدية وتمتدُّ إلى أعمق الحاجات الروحية، ونتساءل هنا: هل أصبح المساس بهذا الثالوث والاقتراب منه مباحاً في ظلِّ التغيرات السريعة التي يتعرَّض لها العالم؟ أم إننا ما زلنا نخوض فيما هو محرَّمٌ وغير منتهكٍ معرفياً؟ وهل يمتلك ذلك الاقتراب من هذه المفاهيم الموروثة والمقولبة قوانين وضوابط تمنع من الإسراف في الانفتاح الفكري والإفراط به؟ أم إنَّ معالجة هذه القضايا ستقود إلى فوضى عارمة وغير إيجابيةٍ، ولن تحقِّق الفائدة المرجوّة منها؟

لقد قاد اقتحام هذه المحرمات إلى طريق يتَّجه إلى بؤرة شديدة الغموض وكثيرة المفاجآت، فكان الحديث عنها اكتشافاً لما هو مجهولٌ في النفس البشرية التي لا تزال تحتفظ بكثير من المجاهيل، فقد قبلنا بخضوع، ولسنوات طويلة، الهيمنة الفكرية التي فرضتها الرقابة السياسية والدينية والاجتماعية علينا بشكل غير مبرَّر منطقياً، والمشكلة المتعلقة بهذا الحديث اليوم تختلف عمَّا كانت عليه في الماضي، المشكلة اليوم تتصل مباشرة بنا، وتتعلَّق بما ترسَّخ داخلنا نتيجة للتربية الاجتماعية والثقافية التي نشأنا عليها في ظلِّ الأنظمة الاستبدادية الفاسدة.

قامت الأنظمة السياسية وما زالت تقوم بدورها الأزلي بتجذير الخوف في أعماق أعماقنا لكيلا نقترب من هذا الثالوث الذي أضحى محرماً ليس لسبب واحدٍ فقط، بل لأسباب كثيرةٍ

تعمل الأنظمة الديكتاتورية على قمع الحريات وخلق كثيرٍ من العقبات أمام الحركات الفكرية الحرَّة التي تسعى إلى الخوض في غمار الحديث عن العلاقات الأساسية في حياتنا والتي تدور حول هذا الثالوث المحرَّم، إذ تمَّ الفصل التام بين تلك المفاهيم من حيث الجوهر والحقيقة وبين الحياة المعاشة بتفاصيلها الدقيقة، فقامت الأنظمة السياسية وما زالت تقوم بدورها الأزلي بتجذير الخوف في أعماق أعماقنا لكيلا نقترب من هذا الثالوث الذي أضحى محرماً ليس لسبب واحدٍ فقط، بل لأسباب كثيرةٍ، ولعلَّ المساس بأحدها يتسرَّب تلقائياً إلى الباقي منها، وذلك لشدة اتصالها ببعضها بعضاً.

إنَّ التغيرات التي طرأت على بنية المجتمعات العربية في الآونة الأخيرة أدَّت وبشكل واضح ومباشر إلى التغيير في ماهية هذه المفاهيم، ولو فكَّرنا في رأس الهرم الثلاثي فسنجد أنَّ ما هو سياسيٌّ يسيطر على الأقنومين الآخرين ويتحكَّم بهما، فالممارسة الحرَّة للفعل السياسي يعني أن تكون هناك علاقات صحيَّة في تربيتنا الجنسية والدينية والتي يتفرَّع عنها قضايا كثيرة ودقيقة لا يمكن حصرها الآن، إلا أنَّ الإنسان يشكِّل فيها المحور الذي تدور حوله هذه القضايا، فهي تبدأ منه وتنتهي عنده.

ولم تقف السلطة السياسية مكتوفة الأيدي أمام الحركات الفكرية التي تحاول أن تكشف الحقائق المختبئة في عباءة هذا الثالوث، فالكاتبة النسوية المصرية نوال السعداوي كانت إحدى النساء اللواتي تحدَّثن بجرأة عن قضايا تخصُّ الدين والجنس والسياسة، ولا سيما قضايا المرأة، لكنَّها بسبب تجاوزها لما هو تقليدي ومبرم سُجنت وهوجمت آراؤها وتمت المطالبة بسحب الجنسية المصرية منها، كما لم تكتب الروائية السورية ابتسام تريسي روايتها "بنات لحلوحة، الرواية القاتلة" والتي تتحدث فيها عن استخدام السلطة السياسية للسلطة الدينية للسيطرة على الشعب، واستغلالها لبنات الليل وتوظيفهنَّ في خدمة أجهزتها الاستخبارية إلا بعد أن خرجت من قيد السلطة الأسدية المستبدة.

وتعمل الأنظمة السياسية على تعميق الفروق بين الشعوب على أسس عقائدية وجنسانية بهدف إضعاف هذه الشعوب والسيطرة عليها، وتسعى بذلك إلى تشتيت الشعوب وسلب حقوقهم، ممَّا أدَّى إلى ضياع هويتهم وانتمائهم، وذلك انطلاقاً من مبدأ إشغال الأفراد وإرهابهم وإبعادهم المقصود عن مراجعة تلك السياسة الاستبدادية القائمة على قمع الحريات وتقويمها بالثورات المطالبة بحقوقها المشروعة.

إنَّ المصالحة الكبرى بين هذه المفاهيم الثلاثة لا يمكن أن تتمَّ إلا عندما تنضوي جميعها تحت شعار الإنسانية، هذا الشعار الذي يحفظ حقوق البشر

ويرى بعض الباحثين في العلوم النفسية أنَّه لا فائدة كبيرة يمكن أن نحصِّلها من المزيد من الحديث حول تلك القضايا، لأنَّ مزيداً من الحديث في أمور الدين والجنس والسياسة لن يغيّر كثيراً في قناعاتنا، ذلك لأنَّنا كما تقول سوزان كراوس أستاذة العلوم النفسية "نرى العالم من الداخل إلى الخارج، وهي حقيقة تقود الجميع إلى أن يكونوا على الأقل أنانيين إلى حدٍّ ما، والمصطلح التقني لهذا هو التمركز حول الذات"، غير أنَّ الواقع أثبت العكس من ذلك تماماً، فالكلام على تلك الموضوعات يزيد في الوعي ويفتح أفق الإدراك الفكري، ويبعدنا عن الجهل الذي استشرى في عقولنا لمدةٍ طويلةٍ من الزمن؛ لأنَّنا كنَّا نحوم حول هذه الأقانيم المقدَّسة محمَّلين بكمٍّ كبير من الخوف والشعور بالذنب والرهبة والترهيب.

إنَّ المصالحة الكبرى بين هذه المفاهيم الثلاثة لا يمكن أن تتمَّ إلا عندما تنضوي جميعها تحت شعار الإنسانية، هذا الشعار الذي يحفظ حقوق البشر، الرجال والنساء منهم على حدٍّ سواء، وذلك من خلال معرفة كثيرٍ من الحقائق عن غرائزهم الجسدية بقصد تهذيبها وأنسنتها، هذا الشعار الذي لا يفرِّق بين الأديان والشعائر والطقوس ويسمح بالتنوير الفكري الذي يرتقي بأرواحنا، هذا الشعار الذي يضمن للمواطنين ممارسةً حرَّةً للفعل السياسي ضمن الفضاء العمومي حيث لا يستبدُّ فيها حاكم على شعبه، ولا تنتهك فيه حقوق.