البوارج الأميركية رسائل ليس إلّا

2023.08.10 | 05:45 دمشق

البوارج الأميركية رسائل ليس إلّا
+A
حجم الخط
-A

"البوارج الأميركية تتحرك باتجاه الخليج العربي"، تقول وكالات الأنباء نقلاً عن مسؤولين أميركيين. وهذا ما يحدث فعلاً، فقد أفادت وكالة الأنباء الفرنسية بدخول السفينة الهجومية، حاملة الطائرات “USS Bataan” وسفينة الإنزال الحربية “USS Carter Hall” إلى البحر الأحمر يوم السادس من الشهر الجاري، بعد أن أبحرتا من فيرجينيا الشهر الماضي باتجاه المتوسط. وتستفيض الوكالات بتفاصيل حمولة السفينتين.

طائرات وزوارق إنزال وقدرات نارية مختلفة. يقول تيم هوكينز المتحدث باسم الأسطول الخامس الأميركي إن الهدف من هذا التحرك هو "ردع النشاط المزعزع للاستقرار، وتخفيف التوترات الإقليمية الناجمة عن مضايقات إيران ومصادرتها للسفن". حقيقة الأمر أن إيران فعلاً احتجزت أو حاولت احتجاز قرابة 20 سفينة في المنطقة خلال العامين الماضيين. كانت مثل تلك الحوادث تقع، لكن على نحوٍ أقل، منذ عام 2018، عندما أنهى الرئيس الأميركي ترامب الاتفاق النووي بين بلاده وإيران، وحيث لم تبرز أي مؤشرات على أن الدبلوماسية يمكن لها أن تحيي الاتفاق قريباً.

منذ 2020 بدا أن هناك انسحاباً عسكرياً أميركياً من منطقة الخليج، وتعزز ذلك بعد بدء الحرب الروسية ضد أوكرانيا. لكن في الفترة الراهنة، من الملاحظ أن هناك تحولاً ما في استراتيجيات الولايات المتحدة، فهي إن لم يكن باستطاعتها الاقتراب عسكرياً من روسيا أكثر مما تفعل في أوكرانيا، فإن باستطاعتها مضايقة حلفاء روسيا، وعليه جاءت التعزيزات إلى بحر الصين الجنوبي، وتالياً إلى منطقة الخليج العربي. الرد الإيراني على التحرك الأميركي جاء على لسان أبو الفضل شكارجي المتحدث باسم القوات المسلحة الإيرانية الذي تساءل مستنكراً: "ما علاقة أميركا بأمن الخليج وبحر عمان؟ ماذا تفعل القوات الأميركية هنا؟ دول المنطقة قادرة على إحلال الأمن في هذه المياه"، أعتقد أنه يقصد إيران كممثل عن دول المنطقة.

يؤكد المحللون السياسيون والاقتصاديون، أن الأولوية بالنسبة لأميركا اليوم في المنطقة، إبقاء مضيق هرمز مفتوحاً أمام الشحن. خاصة أن الحرب الأوكرانية الروسية تضغط بما يكفي على أسواق النفط

قبل أيام، صرح الجنرال عبد الرحيم موسوي قائد الجيش الإيراني بأن "نشر القوات الأميركية لن يؤدي إلا إلى انعدام الأمن.. على مدى سنوات كان الأميركيون يدخلون ويخرجون من المنطقة بأحلام كاذبة"، ستغفرون لي موافقتي للسيد الجنرال على جزئيته الأخيرة حول الأحلام الكاذبة، خصوصاً تلك التي تدغدغ يأسنا بين فترة وأخرى. بينما يؤكد المحللون السياسيون والاقتصاديون، أن الأولوية بالنسبة لأميركا اليوم في المنطقة، إبقاء مضيق هرمز مفتوحاً أمام الشحن. خاصة أن الحرب الأوكرانية الروسية تضغط بما يكفي على أسواق النفط، والتحرشات الإيرانية تدعو دول المنطقة إلى التخوف بشأن نواياها اتجاه هذ الممر المائي الحيوي، خصوصاً مع تحول اهتمامات أميركا نحو أوروبا في السنتين الأخيرتين.

مع انسداد الأفق الدبلوماسي، وجاهزية إيران لتكون أكثر عدوانية، ما يؤشر لتلك العدوانية استعراضات القوة وخاصة الصاروخية لمهاجمة أهداف بحرية، والمناورات العسكرية الأخيرة. فهل بدا لأميركا أن وقت الردّ قد حان، كما يطيب لنا أن نستنتج؟ أم هي مجرد رسائل حربية إلى طهران من أجل إقناعها بالتراجع، في مياه الخليج على الأقل؟ والسؤال الأهم هل حقاً سيغير هذا التحرك الأميركي في استراتيجيات الردع في المنطقة؟ حتماً لا جواب اليوم، ولكن عوّدتنا التجارب أنه مع استعراضات القوة، غالباً يكون هناك ما يتم البحث حوله في الغرف المغلقة.

قبل 55 عاماً من اليوم، في الثالث والعشرين من شهر كانون الأول/يناير عام 1968، احتجزت قوات كوريا الشمالية البحرية بالقوة السفينة "USS Pueblo" في المياه الدولية. وهي سفينة جمع معلومات استخبارية إلكترونية أميركية. تم أسر طاقمها البالغ 83 عسكرياً أميركياً (قتل أحدهم خلال الأسر). كان الاستيلاء على بويبلو بملفاتها ومعداتها عالية السرّية، خسارة فادحة للمخابرات الأميركية، وإذلالاً ولّد أزمة دولية، بين كوريا الديمقراطية بزعامة كيم إيل سونغ، جدّ الزعيم الحالي، وبين أميركا وإدارة الرئيس ليندون جونسون.

حتى اليوم لا يزال سبب الاستفزاز الكوري الذي أربك حتى حلفاء كوريا، الاتحاد السوفييتي والصين، بمثابة اللغز، رغم أن البعض يتكهن بأن سونغ أمر بالهجوم لصرف اهتمام الرأي العام عن الصعوبات الاقتصادية والسياسية المحلية. في واشنطن عقد الرئيس جونسون (اجتماع إفطار) مع كبار المستشارين. خلال تناول الطعام، أوضح الرجل أن تركيزه سيكون على المفاوضات "هدفنا الأساسي هو كسب الوقت، وإعطاء جميع المعنيين فرصة للتفكير معاً. سنعطي الوقت للسوفييت للتأثير على كوريا إذا أرادوا ذلك". في الوقت نفسه أراد دعم الديبلوماسية بالاستعداد العسكري. فطلب من روبرت ماكنمارا وزير دفاعه المنتهيية ولايته، تحريك القطع العسكرية باتجاه بحر كوريا "دعونا لا نُتَّهم بأننا غير مستعدين" أضاف الرجل.

تضمنت العمليات في الأيام اللاحقة، نشر حاملات الطائرات مع أطنان من القنابل من جنوب شرقي آسيا إلى كوريا الجنوبية، واستدعاء الحرس الوطني الجوي، إضافة إلى العديد من وحدات الاحتياط الجوي الأخرى، كما تم نشر تسع غواصات معظمها هجومية. بالإضافة إلى ذلك مُنحت السلطة للقادة العسكريين لنشر 26 قاذفة قنابل من طراز B-52 في عموم الولايات المتحدة، وكثير من وسائل الدعم الأخرى.

مع كل الخيارات العسكرية الحاسمة التي وضعت أمام الرئيس الأميركي، بما فيها خارطة للأهداف سوف تشلّ أي محاولة كورية للتصدي، فإن جونسون اختار المفاوضات الدبلوماسية. بعد أيام قليلة من احتجاز السفينة، افتتح الأدميرال الأميركي جون سميث سلسلة من المفاوضات السريّة مع جنرال كوري شمالي في قرية "بانمونجوم" على الحدود بين الكوريتين. مفاوضاتٌ أدّت بعد 335 يوماً، إلى إطلاق سراح طاقم بويبلو في كانون الأول/ ديسمبر 1968.

كان البنتاغون ينظر في الخيارات العسكرية، لم يكن الرئيس راغباً بأي من ذلك، خلافاً حتى لرأي مستشاره هنري كيسنجر. أجرت القوات الأميركية بعض استعراضات القوة كرسالة تحذيرية لكوريا الشمالية، ثم انتهى الأمر دون أي رد

بعد شهور فقط من انتهاء الأزمة بين البلدين، أسقط طيار كوري شمالي طائرة استطلاع أميركية كانت تحلّق فوق المياه الدولية، مما أدى إلى فقدان جميع أفراد طاقمها. حينها، وكان قد تسلم نيكسون قيادة الإدارة الأميركية. وبينما كان البنتاغون ينظر في الخيارات العسكرية، لم يكن الرئيس راغباً بأي من ذلك، خلافاً حتى لرأي مستشاره هنري كيسنجر. أجرت القوات الأميركية بعض استعراضات القوة كرسالة تحذيرية لكوريا الشمالية، ثم انتهى الأمر دون أي رد.

في الثامن عشر من آب/أغسطس 1976 دخل أعضاء من فيلق الخدمة الكورية الجنوبية، مع مرافقيهم من ضباط الجيش الأميركي، إلى المنطقة العازلة بين الكوريتين، قرب قرية "بانمونجوم". كان الهدف هو تقليم شجرة تشكل عائقاً في الاستطلاع. هاجم أفراد من قوات كوريا الشمالية الفريق باستخدام الفؤوس، وقتلوا ضابطين أميركيين هما الكابتن آرثر بونيفاس والملازم مارك باريت. لن أطيل عليكم، لكن كنسخة عن سابقاتها، تمت مناقشة الخيارات العسكرية، وأُعلن الاستنفار من الدرجة القصوى، اقترح هنري كيسنجر قصف ثكنات كوريا الشمالية في المنطقة منزوعة السلاح، إضافة إلى قطع الشجرة. قضت تعليمات الرئيس فورد باستعراض القوة، وكانت هناك الكثير من الغارات الوهمية بدون قصف. استمرت العملية حتى 8 أيلول/سبتمبر. حيث قام مهندسو الجيش الأميركي بالرد النهائي، فقطعوا الشجرة تحت حماية الطائرات الأميركية التي كانت تحلّق في الأجواء المحيطة.

عام 1968، رفضت كوريا الشمالية إعادة السفينة المحتجزة بويبلو إلى أميركا. قيل يومها إن طائرة كورية أقلعت، بعد احتجاز السفينة بأيام، بحمولة كبيرة من حصيلة ما تم تفكيكة من أجهزة السفينة، إضافة إلى جميع الوثائق، وطارت من بيونغ يانغ إلى موسكو. عام 2013 أُعاد الحفيد كيم جونغ أون السفينة للعمل لكن بوظيفة أخرى، غدت متحفاً عائماً في العاصمة الكورية الشمالية. لست هنا بوارد النصح للقوات الأميركية التي تواصل طريقها إلى الخليج، كي لا تتحول إحدى سفنها إلى مطعم إيراني عائم، لكن هذا لا يمنع من القول إن قليلاً من الحذر لن يضرّ. وإن كان لا بد من بعض التهور، فليقطعوا شجرة إيرانية ما، تعيق النظر عما يجري داخل ذاك البلد، على أن تتم العملية بحذر تام، وتحت مرمى مدافع البوارج وقذائف الطائرات.