الانسحاب الجزئي الروسي من الأراضي السورية.. دلالاته وانعكاساته الميدانية

2022.11.13 | 05:37 دمشق

الانسحاب الجزئي الروسي من الأراضي السورية.. دلالاته وانعكاساته الميدانية
+A
حجم الخط
-A

قبل أيام عدة دخلت المواجهات الدامية في الحرب الأوكرانية عمليا شهرها التاسع، حرباً بدأها الرئيس بوتين بشكل مفاجئ ومن دون مقدمات، وأعلن انطلاق أولى جولاتها بتاريخ 24/2 مع إطلاق اسم العملية الخاصة عليها رغم كل هذا الخراب والدمار الذي ألحقته بالمدن والبلدات الأوكرانية وبناها التحتية..؟!

عمليا فإن العملية الخاصة هذه، ومن خلال المتابعة والتحليل لأحداثها، وقراءة خريطتها الميدانية، وتبدلات المواقف القتالية والطارئة فيها، وإمكانية أن يجر العالم من خلالها إلى أتون حرب نووية أو عالمية ثالثة،  وعليه فإننا نستطيع القول بأن استراتيجيات هذه العملية وتكتيكاتها وأهدافها، بدأت تأخذ مساراتٍ أكثر دموية وعنفا، ودخول العمليات فيها مفترقات ومنعطفات خطيرة، وخاصة في الأسابيع والأيام الأخيرة، يأتي كل هذا بعد استهداف وتدمير جسر كيريتش (القرم)، هذا الجسر الاستراتيجي الهام الذي وكما نعلم أنه يربط البر الروسي بشبه جزيرة القرم، ناهيك عن ترافق ذلك الاستهداف مع الخسائر الجسيمة التي مُنِيَ بها الجيش الروسي بالعدة والعتاد على جبهات عدة، واضطراره تحت الضغط للقيام بالتراجعات والانسحابات التكتيكية من مناطق استراتيجية كثيرة، وخسرانه لمساحات واسعة كان مسيطرا عليها مند بدايات العمليات، ويأتي على رأس تلك المساحات التي تم خسارتها مناطق في محيط "خاركييف" و إقليم "الدونباس"، شرقا و"خيرسون" على البحر الأسود جنوبا.، يقابل ذلك تمكن الجيش الأوكراني من استعادة آلاف الكيلومترات، ومئات المناطق والمواقع من خلال القيام بالعديد من الهجمات المعاكسة الخاطفة والناجحة، طبعا مستفيدا من إصراره والروح القتالية العالية لجنوده والإمدادات والأعتدة والأسلحة المتنوعة الحديثة، والمعلومات الاستطلاعية والاستخباراتية  المقدمة له ومن دون انقطاع من دول حلف الناتو.

إعلان الرئيس "فلاديمير بوتين" للمرة الأولى عن القيام بالتعبئة الجزئية، التي شملت في مرحلتها الأولى ما يقارب 300 ألف جندي

حقيقة فإن انعكاسات الحرب ونتائجها السلبية المفاجئة وغير المتوقعة من قبل الجانب الروسي قد بدأت تظهر آثارها وتطفو ملامحها على السطح من خلال قراءة وتحليل المعطيات الآتية:

أولا: الخسائر الفادحة وغير المسبوقة بالأرواح والمعدات التي تكبدتها القوات الروسية الغازية والتي لم تعرف مثيلا لها منذ نهايات الحرب العالمية الثانية.  

ثانيا: اضطرار القيادة الروسية وهي القوة النووية الثانية في العالم للجوء إلى إيران والطلب منها شراء مئات من الطائرات المسيرة ذات الاتجاه الواحد من نوع شاهد 136 وصواريخ أرض أرض بأنواع وتسميات مختلفة لاستخدامها في حربها التي باتت تأكل نيرانها مخزونها الاستراتيجي..!؟.

ثالثا: إعلان الرئيس "فلاديمير بوتين" للمرة الأولى عن القيام بالتعبئة الجزئية، التي شملت في مرحلتها الأولى ما يقارب 300 ألف جندي للزج بهم في جحيم المعارك الدائرة.

رابعا: الاعتماد على مجموعات ومرتزقة "فاغنر" في بعض الجبهات والخطوط الأمامية، وخاصة في مناطق خاركييف، الدونباس باخموت، خيرسون. بعد أن تم سحبهم من مناطق الصراع في سوريا وليبيا ومناطق أخرى ينتشرون ويقاتلون فيها.

خامسا: حالة التخبط ومسلسل التغيير الدائم لقادة الجبهات و القطاعات، والذي بدأه الرئيس "بوتين" بتعيين الجنرال "ألكسندر دفورنيكوف" المعروف بـلقب "جزار سوريا" قائدا للعمليات في أوكرانيا، والذي انتهى به المطاف لاحقا للعزل، وتعيين الجنرال "سيرغي سوروفكين"، والمعروف باسم جنرال "هرمغدون" بديلا عنه في قيادة القوات الروسية في أوكرانيا، ومن الجدير ذكره وبحسب منظمة "هيومن رايتس ووتش" غير الحكومية، فإن هذا الجنرال متورط في سوريا بعدة هجمات على مناطق سكنية وقصفه أخرى بالقنابل الكيميائية مع استهدافه الإجرامي للأسواق والمستشفيات.

سادسا: تشكيل القيادة الروسية ميليشيات مناطقية عديدة أو ما أطلق عليها "قوات الدفاع الإقليمي"، وذلك لمشاركة الجيش بالقتال والدفاع عن المناطق التي تم احتلالها.

سابعا: إعلان الأحكام العرفية في المناطق الأوكرانية الأربعة التي ضمها "بوتين" بالقوة للاتحاد الروسي وهي مناطق خيرسون، زباروجيا، لوغانسك، دونيتسك. واعتبار أن أي اعتداء على هذه المناطق يعد اعتداء على الأراضي الروسية ويتطلب الرد بكل أنواع الأسلحة.

ثامنا: اضطرار القوات الروسية لسحب ضباط وجنود من سوريا، حيث قدر عددهم بكتيبتين أي أكثر من 2000 جندي، إضافة للعديد من العتاد المدرع والسيار ومنظومات للدفاع الجوي من طراز S400 و S300 وعشرات الطائرات من طراز سو 34، سو29 وعدد من مروحيات كاموف 52 التمساح وذلك بعد تجميع كل هذه الكتل في قاعدتي حميميم وطرطوس لنقلهم جوا وبحرا إلى أوكرانيا.

في الواقع فإن سحب هذا العدد من القوات والعتاد من القواعد الروسية المنتشرة في سوريا وخاصة بعد اندلاع الحرب الأوكرانية، والخسائر الروسية الكبيرة فيها لم يكن مفاجئا للمتابعين والمهتمين بهذا الملف، لذلك فإن هذا الانسحاب الجزئي للقوات الروسية من الناحية العسكرية والتكتيكية لا أتصور أن يؤثر إلا بشكل لا يكاد يذكر على العمليات العسكرية الروسية في سوريا، فمن المعروف أن موسكو بالأساس لم تعتمد على أي قوات برية تتبع لها في العمليات التي قامت وتقوم بها، بل اعتمدت ومنذ تدخلها في سوريا في نهاية أيلول 2015 على سطوة سلاح  أسطولها الجوي في تنفيذ عمليات التدمير الممنهج وسياسة الأرض المحروقة التي مكنت قوات النظام الأسدي المجرم، وميليشيات إيران من استعادة غالبية المناطق التي كانت تحت سيطرة المعارضة والفصائل، فكيف الآن وقد انحصر وانحسر نشاط الطيران الروسي على مناطق محدودة في إدلب والريف الشمالي لحلب فقط، والذي يكفيه عمليا سرب أو أكثر بقليل من الطائرات القاذفة والمقاتلة للقيام بالمهام التدميرية ذاتها. 

إسرائيل من جهتها وكما أعلنت مرارا وتكرارا بأنها لن تسمح بـالتمدد الإيراني في سوريا، وأنها تعتبر هذا الوجود تهديدا مباشرا وخطيرا لأمنها القومي، كما أنها لن تسمح لإيران في توظيف واستخدام الأراضي السورية كجغرافيا عبور لتهريب الصواريخ الدقيقة والمسيرات إلى حزب الله في لبنان، ولذلك تابعنا ورغم الوجود الروسي قيام تل أبيب خلال السنوات الماضية ولاتزال بشن مئات الغارات الجوية والصاروخية على الأهداف الإيرانية المنتشرة في سوريا. أما الآن فإسرائيل ترى أن الانسحاب الجزئي الروسي من سوريا هو "فرصة وتهديد" في الوقت ذاته، أما "الفرصة" فهي التي ستسمح لتل أبيب بزيادة وتكثيف استهدافاتها للميليشيات الإيرانية من دون حسيب أو رقيب أو الدخول في أية حسابات أخرى، وأما "التهديد" فتخشى "إسرائيل" من أن تغتنم أذرع وميليشيات إيران فرصة الغياب الجزئي الروسي لزيادة نشاطاتها والتمدد العلني على الحدود الأردنية وحدود الجولان المحتل واقترابها من خطوط إسرائيل الحمراء.

الانسحاب الجزئي والتدريجي الروسي من الأراضي السورية في هذا الوقت سيخلط أوراقا كثيرة، وسيزيد من تعقيدات الصراع

إيران من جهتها تنتظر هذه الفرصة لملء الفراغ الذي خلفه انشغال موسكو بحربها في أوكرانيا، ولذلك بدأت ميليشياتها ومنذ فترة بالسعي للتمدد أكثر وأكثر في مناطق جديدة أخلتها القوات الروسية، مثل مناطق عدة في الساحل السوري، ودرعا والقنيطرة وحدود الأردن، وشرقي الفرات في مدينتي الحسكة والقامشلي، ومحيطهما وقرب الحدود التركية بعد أن كانت ممنوعة عنهم في ظل الوجود الروسي القوي فيها.

ختاما.. لاشك أن الانسحاب الجزئي والتدريجي الروسي من الأراضي السورية في هذا الوقت سيخلط أوراقا كثيرة، وسيزيد من تعقيدات الصراع، وسيحدث فراغا أمنيا خاصة على الحدود الجنوبية الاردنية وهذا الأمر ولاعتبارات وأسباب عدة ما تخشاه الأردن حكومة وشعبا، ناهيك عن أن هذا الانسحاب سيعني بشكل أو آخر زيادة في النفوذ الإيراني وزيادة أخرى في الاستهدافات الإسرائيلية كماً ونوعاً.