الانتقائية الثورية

2019.11.26 | 16:56 دمشق

2019-11-22t162104z_339173783_rc2ggd9ad0cm_rtrmadp_3_lebanon-protests-independence.jpg
+A
حجم الخط
-A

"إذا كنت لبنانياً فتقدم إلى الأمام، أما إذا كنت غير ذلك فتراجع إلى الخلف"

عنصرية سياسية مارسها مدّعو الثقافة ممن نصبوا أنفسهم نخبة رفيعة، فطعنوا الثورة السورية وشككوا في مصداقيتها، غير أنهم اختاروا تأييد الثورة اللبنانية وتشجيع حراك ناشطيها، قبل أن يخرج زعيم ميليشيا حزب الله ويطعن هو بدوره في الثورة اللبنانية فينهاهم عن تأييدها والانتصار لها.

انشغل العالم في الآونة الأخيرة بانتظار مظاهرات لبنان الشقيق وانقسمت الآراء مثل العادة بين مؤيد ومعارض ورافض ومشكك، واختار بعض من رفض الثورة السورية ولعنها وشكك بأحقية السوريين للقيام بها، منح اللبنانيين الحق في الثورة على حكوماتهم الطائفية الفاسدة.

وفي غمرة هذه التجاذبات تناسى المثقفون ذاتهم وربما تجاهلوا، أن في الجوار أيضاً من يقف في وجه الطغاة ويحلم ببلاد لا وجود لمستعمر فيها ولا لوصي، بلاد لا تنتظر رحمة من جندي أميركي أو روسي يجلب لها ديمقراطية معلبة على مقاس أهوائه، ولا لسلطوي فاسد يثبت أقدامه مستغلاً حالة الفوضى التي تركها الغزو في البلاد.

فعلى سبيل المثال استثنت إنسانية تلك النخبة من فنانين وأدباء ما يحدث في العراق من ثورة ضد الظلم ورفض للفساد، مثلما فعلوا في سوريا تماماً، متجاهلين سقوط مئات العراقيين بين قتيل وجريح في الأسابيع الماضية، من دون أن يسلط الإعلام الضوء عليهم ومن دون أن تذكرهم منشوراتهم الهادفة بكلمة حق.

استثنت إنسانية تلك النخبة من فنانين وأدباء ما يحدث في العراق من ثورة ضد الظلم ورفض للفساد، مثلما فعلوا في سوريا تماماً، متجاهلين سقوط مئات العراقيين بين قتيل وجريح

بينما ظلوا يكيلون المديح والغزل للحراك اللبناني، وتجاهلوا في غمرة تملقهم الأشقاء اللبنانيين، أن من في العراق يحق لهم أيضاً رفض الواقع المزري الذي يعيشونه، وأن في علم الإنسانية لا يمكن أن تمنح شعباً الحق في الثورة فيما تنكر الحق ذاته على شعب آخر انطلاقاً من اعتبارات مشبوهة لا تمت للعدالة بصلة.

يعود بنا الحراك اللبناني إلى بواكير الثورة السورية أيضاً، من حيث تنظيم اللافتات والشعارات البعيدة عن الطائفية والدعوة إلى وحدة الشعب، وحضور النساء اللافت مع الرجال جنباً إلى جنب والروح الممتلئة بالطاقة الإيجابية والتغني بالأهازيج المناهضة للذل.

غير أن ما استفز أصدقاءنا مثقفي الأبراج العاجية من طقوس دينية مارسها الثوار السوريون في أثناء اعتصامهم، لم يكن له ذلك الأثر السلبي الآن في ثورة اللبنانيين، وما عابوه على الثورة السورية وانتقاصهم من شأنها واتهامها بأنها ثورة طائفية، لم يكن سوى مجافاة للواقع ومحاولات متكررة من أجل التعامي عن الحقيقة المثبتته بالأدلة المرئية والمسموعة التي ما تزال شاهدة على ذلك.

سنفترض جدلاً أن للبعض الحق في تخوفاتهم -غير المبررة- بفعل التغييب السياسي الذي عانى منه السوريون على اختلاف شرائحهم، وسنحاول أن نرى الأمور من زاويتهم المعتمة، لأن الشجاعة كانت تنقصهم ولأنهم لم يجرؤوا على تأييد ثورة السوريين بسبب الخوف من العنف الأمني الذي عشنا في ظله طويلاً أو لأي سبب آخر، لكن ذلك لا يبرر تلك الجعجعة المستمرة بالإساءة للثورة والثوار ونعتهم بأبشع الصفات، لقد كان من الأجدر بهم ربما أن يقولوا خيراً أو يصمتوا وإلا فلا يمكن اعتبار ذلك إلا كيلاً بمكيالين وازدواجية للمعايير.

من واجب المثقف الذي يحتم عليه دوره المجتمعي الوقوف إلى جانب المظلومين والمقهورين في أي مكان من العالم من دون استثناءات ومن دون تحفظات وحواجز وانتقادات محبطة

من واجب المثقف الذي يحتم عليه دوره المجتمعي الوقوف إلى جانب المظلومين والمقهورين في أي مكان من العالم من دون استثناءات ومن دون تحفظات وحواجز وانتقادات محبطة، وإلا فإنه يتخلى عن دوره التاريخي في الارتقاء بالمجتمع وعليه أن يفسح المجال لغيره لفعل ذلك.

يثور اللبنانيون والعراقيون اليوم ضد النظام الطائفي الذي رسخه الاستعمار واستغله الاستبداد من بعده بالطريقة المقززة نفسها لتمكين سلطته وترسيخ براثنه في المجتمع، فكان البعبع الذي هددت به السلطة الأبوية أبناءها العاقين لعقود كلما حاولوا رفض الأوضاع المتردية القائمة والانقلاب ضدها.

مازالت الأنظمة الحاكمة تعيد السيناريو نفسه في قمع الاحتجاجات التي تستمر بالاشتعال من مكان إلى آخر، وكأن هناك من وزع لهم نموذجاً موحداً من ورقة الإجابة من أجل تجاوز الامتحان الأصعب الذي يتعرضون له في فترات حكمهم التي لا يبدو أن لها نهاية.

لقد راهن العالم في العقد الأخير على اجتثاث الروح الثورية في البلاد المشتعلة، وإعادة المنطقة إلى قبضة الوصاية الأمنية متمثلة بالحكومات المستبدة، وحاول في الوقت نفسه خداع كثير من المحتجين في العالم العربي بتغييرات ظاهرية، فيما استمرت السلطات في القتل والتخويف والاعتقال والتهجير، من أجل إعادة إحكام السيطرة، لكن ما فاجأهم اليوم هو استمرار تلك الروح الثورية في لبنان والعراق ليشكلوا مع سوريا مثلث موت محتم لأزمنة الذل والاستعباد.

كل تلك المحاولات ذاهبة إلى زوال، وسيكتب التاريخ يوماً أن الشعب العراقي الذي اجتاحته الدبابات الأميركية بحجة إنقاذه من سطوة استبداد لا يقل توحشاً عنها، قد وقف في وجه الدبابة محتمياً بـ "تك تك" بسيط كان لا يكفي لسد رمقهم في أيام اقتات فيها الفساد من لحم أجسامهم، وأن الشعب الذي استنزفوه في لبنان أسقط عباءة الطائفية أخيراً مثلما أسقط زعامات طوائفه أولاً، وجعل بذلك من المستحيل ممكناً في بلاد كانت أبعد ما يكون عن مخططاتهم في اندلاع الثورة فيها.