الانتفاضة اللبنانية في طورها الجديد: الشغب كضرورة سياسية

2020.01.18 | 17:15 دمشق

protests_1.jpg
+A
حجم الخط
-A

دخلت الانتفاضة اللبنانية شهرها الثالث. واتسمت في الأسبوع المنصرم ببداية ثانية، تحوّلية، بعد فترة خمود أقلقت جمهورها وأوهمت السلطة بذوائها. فإذ بها، تتجدد على نحو مغاير لصورتها الأولى الكرنفالية والاحتفالية، فتصير أشد صدامية، وتتبنى ديناميكية اعتراضية لا تكتفي بالتظاهرات الحاشدة ولا باحتلال الساحات العامة.

انتقلت الانتفاضة من استعراض شعبيتها وقاعدتها الاجتماعية الواسعة وشموليتها الجغرافية، إلى "العمل المباشر" أي إلى الصدام مع السلطة ومؤسساتها ومنظومتها السياسية والاقتصادية والإدارية. فبعد توكيد شرعيتها التمثيلية والوطنية، عبر ذاك الاستعراض الضروري، وبعد إنجاز الكثير في الموجة الأولى، من إسقاط الحكومة إلى تعطيل جلسات البرلمان إلى فرض "أجندة" الانتفاضة بوصفها "المشروع السياسي

بين نهاية كانون الأول وبداية كانون الثاني، بدا واضحاً أن السلطة استجمعت نفسها وعادت لتهيمن على الفضاء العام والإعلام والمسار السياسي ومجالات التأثير على الرأي العام

الوحيد" للبلاد.. كان رد فعل السلطة الطبيعي هو التحايل والمماطلة ومحاولات مصادرة شعارات الانتفاضة نفسها والادعاء بالاستجابة لمطالبها. بل المزايدة فيها. أي، اختصاراً، كان رد فعل السلطة هو "الثورة المضادة".

بين نهاية كانون الأول وبداية كانون الثاني، بدا واضحاً أن السلطة استجمعت نفسها وعادت لتهيمن على الفضاء العام والإعلام والمسار السياسي ومجالات التأثير على الرأي العام. وكان ذلك إيذاناً بنهاية الموجة الأولى من الانتفاضة.

إزاء هكذا خطر، ورداً عليه وعلى عوارض الإحباط، يمكننا هنا أن نتحدث عن "طليعة ثورية"، أي عن نواة صلبة وقلب نابض للانتفاضة، تنكبت إطلاق الموجة الثانية عبر التخلي المرحلي عن أسلوب التجمع السلمي والمدني والشعبي، وتبني أسلوب هجومي فعال يضرب "مؤسسات" النظام مباشرة. هذه الطليعة هي مجموعات من الناشطين والناشطات، استطاعت بسهولة إيجاد بنك أهدافها، التي هي في الوقت نفسه مصدر الغضب العام ومصدر النقمة الشعبية وموضع الرفض العمومي، وهي عنوان المفاسد الكبرى والتجسيد العياني للمنظومة الحاكمة، المؤتلفة من طبقة أوليغارشية تجمع حلف المال وزعماء الطوائف السياسيين.

تمثل بنك الأهداف بالمصارف الخاصة، التي علاوة عن أنها صارت تمعن بإذلال المواطنين يومياً، هي شريك أصيل بالانهيار الاقتصادي والمالي وفي منظومة الفساد والإفساد. وعليه، كان تكتيك مساندة المواطنين – زبائن المصارف – في تحصيل حقوقهم وأموالهم، فعالاً في تحريض الناس ضدها وتعميم رفض ممارساتها غير القانونية، من جهة، وفعالاً في تكريس حق المقاومة المدنية، من جهة ثانية.

إدارات مصلحة الضرائب، مقرات "العدلية" (المحاكم)، مؤسسات الكهرباء والبريد وفروع وزارة المالية ومصرف لبنان المركزي ومقر مجلس النواب ومنازل الوزراء والنواب والرؤساء، شركات الاتصالات.. إلخ، كلها تحولت إلى أهداف لهجمات متنقلة وموضعية، اقتحاماً سلمياً، أو محاصرة أو إقفالاً وتعطيلاً. إضافة إلى ملاحقة أي سياسي يخرج من منزله وطرده من المقهى أو المطعم والتشهير به هتافاً وشتماً واتهامات متداولة..

هذا الفعل المباشر لا يحتاج إلى حشود من مئات الآلاف، بل إلى خلايا نشطة، ملتزمة، ودؤوبة يومياً على العمل، وابتكار الأهداف وأدوات التنفيذ. ولذا، اتسمت بمرونة فائقة وبقدرة على المبادرة وعلى استخدام عنصر المباغتة وسرعة التنفيذ. وعلى هذا المنوال، وهي المتسلحة بتأييد الرأي العام والدعم الشعبي، إلى مؤازرة بعض وسائل الإعلام المؤثرة، بالإضافة إلى نجاعة فائقة لوسائل التواصل الاجتماعي في استثمار الحدث وترويجه.. استطاعت الانتفاضة محاصرة النظام مرة أخرى، مستعيدة المبادرة، وفارضة نفسها كحدث وحيد وحقيقة سياسية لا يمكن الالتفاف عليها أو ترويضها.

ما ساعد على تجديد زخم الانتفاضة هم أهل السلطة أنفسهم. فشلهم في تشكيل حكومة، واستئنافهم لما لا يعرفون سياسة غيرها، أي التصارع الدنيء على الحصص، وتقاذفهم للاتهامات المتبادلة التي تفاقم من فضائحهم، وعجزهم عن تقديم "رشوة" إصلاحية واحدة، واستمرارهم في الفشل الفادح بمعالجة القضايا المعيشية اليومية، وتهربهم من طرح أي مقاربة للتخفيف من الأزمة السياسية والاقتصادية والمالية، وافتقادهم لأي ثقة داخلية أو خارجية.. جعلهم خلواً من أي حيلة. ولم يعد بأيديهم سوى سلاح واحد: جرعة إضافية من القمع.

في اللحظة التي تبلورت فيها استراتيجية الانتفاضة بطورها الجديد، تبلورت لدى السلطة الإجابة الوحيدة لديها: السياسة البوليسية. ومن المعروف أن سلاح القمع ينتج أمرين متناقضين، إما التدجين وإما تزايد الرفض والثورة. وهذه مقامرة خطرة على كل حال.

موعد المواجهة المحتمة، حددته ما اصطلحنا على تسميته "الطليعة الثورية"، حين أعلنت إطلاق "أسبوع الغضب". وفجر الثلاثاء، وعلى نحو مفاجئ، كانت الحركة على امتداد مختلف المناطق، شمالاً وبقاعاً وجبلاً وساحلاً.. هي قطع الطرقات. وهو تكتيك في المقاومة المدنية يهدف إلى شل البلد وأعمال الدولة والتعبير عن رفض "الحياة الطبيعية" وفرض مشهد الاعتراض. وفي الشهور السابقة، استماتت السلطة

العودة إلى قطع الطرقات بات ممكناً، بعدما تبين لمعظم اللبنانيين أن الاكتفاء بالتظاهرات أو الاعتصامات غير مؤثر عملياً في "طمأنينة" السلطة لاستتباب الأمر لها

والأجهزة الأمنية والجيش في تجريد المنتفضين من هذا التكتيك وتحريمه، بوصفه مؤذياً للناس ومصالحهم. ونجحت السلطة إلى حد ما في جعل قطع الطرقات عملاً غير شرعي، وألّبت قسماً من الرأي العام ضد هكذا ممارسة. بل وتورطت مجموعات كبيرة من أهل الانتفاضة في سجالات خلافية حول هذا الأمر، بين مؤيد ومعارض، خصوصاً من قبل المغالين بالطابع السلمي.

العودة إلى قطع الطرقات بات ممكناً، بعدما تبين لمعظم اللبنانيين أن الاكتفاء بالتظاهرات أو الاعتصامات غير مؤثر عملياً في "طمأنينة" السلطة لاستتباب الأمر لها، وتماديها في الاستخفاف بالانتفاضة، خصوصاً بعدما همدت التظاهرات الحاشدة.. إذاً، عاد قطع الطرقات هذه المرة على نحو مكثف وشامل، وعجزت القوى الأمنية على مكافحتها. فترسخت شرعية هذا السلاح، خصوصاً وأن إصرار المنتفضين على مواجهة القوى الأمنية على العودة مرة أخرى وسريعاً إلى قطع كل طريق يفتحها العسكر عنوة، أظهر استعداداً للتخلي عن السلمية المفرطة وللمواجهة العنيفة إن تطلب الأمر.

في ذاك اليوم، بدأ القمع الممنهج.. وهو بالضبط ما تحسب له المنتفضون. القمع أمدهم بحيوية وطاقة وتبرير للتصعيد والتحدي. تحولت مواقع التظاهرات والاعتصامات إلى ساحات صدام مع "قوة مكافحة الشغب" التي لا تجيد سوى تحفيز الشغب.

حدثت موقعتان أساسيتان، الأولى في شارع الحمرا، والثانية في كورنيش المزرعة ومحيط "ثكنة الحلو"، حيث كانت الشرطة تحتجز معتقلي موقعة الحمرا. وفي الموقعتين كانت الاشتباكات والصدامات التي امتدت حتى ساعات الفجر نذيراً بانتقال الانتفاضة اللبنانية إلى طور جديد، أكثر ديناميكية وبمنسوب من العنف قد يلعب دوراً حاسماً في تجذير العداء للسلطة وتوكيد فقدانها للشرعية.

اكتسبت الانتفاضة من الموقعتين تكريس سيطرتها على الشارع، بعدما تلقت أجهزة القمع هزيمة معنوية وسياسية وأخلاقية. ومن هذه السيطرة ومحدودية السلطة في اللجوء إلى العنف، استعادت الانتفاضة اللبنانية زخماً جديداً قد يسرّع في تغيير المعادلة السياسية برمتها.