الاقتصاد التركي بعد الانتخابات: ما بين الشرق والغرب

2023.05.12 | 06:06 دمشق

الاقتصاد التركي بعد الانتخابات: ما بين الشرق والغرب
+A
حجم الخط
-A

من المقرر أن تجري الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في تركيا في 14 من مايو الحالي والتي وصفها الكثيرون بأنها أهم انتخابات في عام 2023. ويبدو أن معظم الأمور في تركيا معلقة حتى ذلك التاريخ، حيث ينتظر الجميع النتيجة في كل من أميركا وأوروبا وروسيا والعالم العربي لمعرفة في ما إذا كانت تركيا بعد الانتخابات ستعود إلى حلفائها في الناتو والغرب أم ستنجرف أكثر نحو روسيا والمحور المناهض للغرب.

يجادل العديد من الباحثين ومراكز الدراسات الداخلية والخارجية بأن الإجابة سيحددها الاقتصاد، وليس الجغرافيا السياسية. يشعر معظم سكان تركيا بالقلق بشأن التضخم وانخفاض قيمة الليرة، وتلعب السياسة الخارجية دورًا ضعيفًا في قرار الناخب. قد يعتاد المواطنون الأميركيون والأوروبيون بشكل متزايد على الحديث عن التضخم وارتفاع الأسعار، حيث ما يزال التضخم هناك من رقم واحد (دون 10%)، لكن المقياس مختلف في تركيا، حيث إن الأتراك يشاهدون ارتفاع الأسعار على أساس يومي تقريبًا، فالتضخم في آخر قراءة حكومية له ما زال من النوع المفرط حيث يتجاوز 40% وسط تشكيك من مؤسسات أبحاث اقتصادية خاصة تقول إن التضخم يتجاوز 100%، والحكومة تحرق احتياطيات العملات الأجنبية في محاولة لتأجيل حدوث انخفاض دراماتيكي في سعر الصرف قد يؤثر على قرار الناخب.

الحقيقة الاقتصادية تقول إن من سيفوز في 14 من مايو سيضطر إلى الحفاظ على العلاقات مع كل من المشترين الغربيين للصادرات التركية ومقدمي الواردات الروسية والصينية. في السراء والضراء، وستمنع هذه العلاقات الاقتصادية التكاملية إعادة الاصطفاف الجيوسياسي الجذري في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان أو خليفته.

الرئيس التركي الحالي مصمم على الاستمرار في السياسية النقدية غير التقليدية على الرغم من إدخال بعض الأسماء الاقتصادية الليبرالية ضمن فريقه الاقتصادي أمثال وزير المالية السابق محمد شمشيك

ظهرت مشكلات الليرة الأخيرة لأول مرة في أغسطس 2018، عندما فرضت الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب عقوبات على الصادرات التركية. كان هذا القرار سياسيًا، ردًا على احتجاز الحكومة التركية لقس أميركي، ثم شهدت استقراراً نسبياً إلى أن أعلن أردوغان عن سياسته الائتمانية منخفضة الفائدة، والتي تم تصميمها لتحفيز النمو الموجه نحو الاستثمار ولكنها أصبحت غير مستدامة الآن. منذ ذلك الحين، أبقت الحكومة التركية أسعار الفائدة الاسمية منخفضة متذرعة بالعامل الديني تارة والنظرية الاقتصادية المثيرة للجدل تارة أخرى. أدت السياسة النقدية غير التقليدية إلى دفع التضخم إلى مستويات قياسية مرتفعة والليرة إلى مستويات قياسية منخفضة. وقد شككت كبرى البنوك الاستثمارية حول العالم في قدرة البنك المركزي التركي على الاستمرار في دعم العملة الوطنية وأشارت الى أن الخيارات الصعبة بما في ذلك زيادة ضوابط رأس المال وتخفيض قيمة الليرة تلوح في الأفق بعد الانتخابات. على الرغم من ذلك يبدو الرئيس التركي الحالي مصمماً على الاستمرار في السياسية النقدية غير التقليدية على الرغم من إدخال بعض الأسماء الاقتصادية الليبرالية ضمن فريقه الاقتصادي أمثال وزير المالية السابق محمد شمشيك والذي يقال إنه سيكون عراب السياسية الاقتصادية في مرحلة ما بعد الانتخابات في حال فوز أردوغان.

في حين أن المعارضة لم تضع السياسة الخارجية على رأس أولوياتها، إلا أنها أشارت إلى أنها ستتخذ موقفًا أقل تصادمية مع الغرب. وتحدث حزب الشعب الجمهوري بقيادة كمال كليجدار أوغلو عن العودة إلى الاقتصاد الليبرالي ودعا الاقتصاديين البارزين المقيمين في الولايات المتحدة ليكونوا ضمن فريقه الاقتصادي بقيادة علي باباجان مهندس الطفرة الاقتصادية التركية التي بدأت في عام 2001 حتى عام 2018.

تشكل العلاقة مع روسيا بعد الانتخابات محور اهتمام العالم الغربي فعلى الرغم من الثنائية الخطابية التي قدمها أردوغان والمعارضة، فإن التاريخ الدبلوماسي يشير إلى أنه حتى في حالة انتصار المعارضة، قد لا تقوم تركيا "بالدوران" دبلوماسيًا بالطريقة التي قد يريدها أو يتوقعها بعض المراقبين الدوليين. حيث إن مفهوم السياسة التركية الخارجية الحديثة أقرب بكثير إلى مفهوم عالم ثالث موجه نحو التنمية محايد من عضو ملتزم في حلف شمال الأطلسي.

منذ بداية الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022، هددت المخاطر الجيوسياسية تماسك الناتو، أثار الحلفاء الغربيون مرة أخرى تساؤلات حول ولاء تركيا. رفضت أنقرة الانضمام إلى العقوبات الغربية على روسيا، ونشرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية وثائق استخبارية تزعم أنها تُظهر أن أنقرة مستعدة لبيع أسلحة لمجموعة فاغنر الروسية السيئة السمعة. وسواء صدّق المرء هذه التسريبات أم لا، فإنها توفر ذخيرة إضافية للنقاد الغربيين الذين يشيرون إلى أن أنقرة تسعى إلى تحقيق مصالح استراتيجية محددة بدقة وحياد انتهازي.

تحتفظ تركيا بعلاقات اقتصادية قوية مع كل من الدول الغربية وخصومها، بما في ذلك روسيا والصين، ومن غير المرجح أن تتغير هذه العلاقات بعد انتخابات 14 من مايو الحالي. إن اعتماد تركيا على روسيا - أكبر مورد للطاقة التركية - مذهل بشكل كبير وأثار تساؤلات حول التبعية السياسية، قبل فبراير 2022، وصف الاقتصاديون العلاقة الروسية التركية بأنها علاقة متبادلة غير متكافئة، مشيرين إلى عجز تركيا الهائل في التجارة الثنائية واستغلال موسكو الناجح للقوة الاقتصادية بعد إسقاط طائرة روسية على الحدود التركية السورية في عام 2015. اليوم بعد مرور أكثر من عام على بدء غزو أوكرانيا، نما هذا الاعتماد المتبادل، وزاد اعتماد روسيا على تركيا اقتصاديا بهدف التهرب من العقوبات الغربية. في الآونة الأخيرة، تم تسليط الضوء على زيادة تجارة تركيا مع روسيا ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في أهمية روسيا بالنسبة للاقتصاد التركي، حيث يظل الغرب مكونًا مهمًا للاقتصاد التركي.

تقوم دورة الاقتصاد التركي على فكرة الجسر بين الشرق والغرب، حيث تستورد تركيا الطاقة من روسيا والمواد الأولية من الصين لتغطية الطلب المحلي، وتجمع المصانع المحلية مكونات السلع المصدرة لأوروبا

تضاعف نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا ثلاث مرات في العقد الأول بعد وصول أردوغان إلى السلطة في عام 2002، وكان هذا النجاح الاقتصادي يعتمد بشكل كبير على الاندماج في الأسواق الأوروبية. في حين أن الأداء الاقتصادي لتركيا كان أقل في العقد الثاني من حكم أردوغان، على الرغم من الاستفادة من دور تركيا كموقع للعمالة الرخيصة للمصنعين الموجّهين نحو السوق الأوروبية.

تقوم دورة الاقتصاد التركي على فكرة الجسر بين الشرق والغرب، حيث تستورد تركيا الطاقة من روسيا والمواد الأولية من الصين لتغطية الطلب المحلي، وتجمع المصانع المحلية مكونات السلع المصدرة لأوروبا حيث تبقى السوق الأوروبية المحفز الأول لتركيا للحفاظ على قطاع تصنيع موجه للتصدير على نطاق واسع.

شهدت الصادرات التركية إلى روسيا زيادة بنسبة 113 في المئة على مدار العام منذ الحرب، لكنها ما تزال تمثل جزءاً بسيطاً من الصادرات التركية، تمثل صناعات السيارات والمنسوجات والصلب حصة هائلة من صادرات تركيا، ويشتري المستهلكون الأوروبيون جزءًا كبيرًا من هذا الإنتاج. على مدار العقد الماضي، كانت ألمانيا باستمرار أكبر مشتر للصادرات التركية، حيث شكلت صناعات السيارات والمنسوجات أكثر من نصف المبيعات التركية. مع الأخذ في الاعتبار حاجة أي زعيم بعد الانتخابات لكسب العملات الأجنبية لترميم الاحتياطي النقدي المتآكل وتقليص عجز الحساب الجاري، فإن دور أوروبا في مستقبل الاقتصادي التركي بعد الانتخابات لا يرقى إليه الشك.

لا تستطيع تركيا التي تعاني من ضائقة مالية كبيرة وعجز في الحساب الجاري أن تستغني عن الطاقة الروسية، كما تحاول أوروبا جاهدة أن تفعل. وستظل تركيا بحاجة إلى دفع تكاليف واردات الطاقة الروسية من خلال عائدات قطاع التصنيع الموجه إلى الأسواق الأوروبية. سيكون الاقتصاد هو الأولوية القصوى لمن سينتصر في 14 من مايو، ولن يتمتع أي رئيس تركي قادم برفاهية اختيار أحد الجانبين.