الاعتقال الأول.. "بدنا نصير بشر"

2019.09.24 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

يقال "بين الشجاعة والتهور خيط رفيع"، بالطبع هذا الخيط المتخيَّل غير محدّد أبداً بحيث يجعل عملية الفصل بين الأمرين مستحيلة، وعليه دأب الناس على تصنيف أي فعل بحسب درجة تقبلهم له، فيكون شجاعاً إن قبلوه ومتهوّراً إن رفضوه أو استنكروه، وفي كلا الحالتين يجب على الفعل أن يشكل تحدّياً للشخص الذي يقيّمه، فيكون من الصعب عليه تصور قدرته على أمر مماثل.

لكني طالما اعتبرت الأمرين سيان، أعني لا أظن أنّ هناك فرقاً حقيقيّاً بين الشجاعة والتهوّر إلا الدّافع وراء الفعل، فيصبح فعلك المتهوّر شجاعة إذا ما فعلته إيماناً بقضية نبيلة أو رفعاً للظلم.

بدايات نيسان 2011 كنا في جامعة حلب مشغولين بالترتيب لمظاهرةٍ طلابية كبرى، في الشارع الممتدّ جنوب الحرم الجامعي قرب كلية الاقتصاد والذي يفصلها عن حي (الفرقان)، مختارين لها موعد الظهيرة عند مغادرة معظم الطلاب لكلّيّاتهم، بحيث تكون الحركة في الشارع طبيعية لا تلفت الانتباه.

لكن انتشار الموعد بين الطلاب وجد آذاناً مصغِيةً من بعض المخبرين، لترتصف في الشارع –الذي يعج بالطلبة– سيارات (مكافحة الشغب) والعناصر متعدّدي التبعيّة للأفرع الأمنية والشبيحة.

وصلتُ إلى المكان قبل نصف ساعة لأجد بعض منظّمي المظاهرة مجتمعين على مقربة من (مكتبة زيزان) في الطّرف الغربي للشارع يحاولون ثَنْي مالك العيسى (أحد طلاب كلية العمارة من أبناء درعا) عن المضيّ في المظاهرة في ظلّ الوجود المفضوح للأمن.

كان مالك مصرّاً على أنّ الثورة فعل تحدٍّ للنّظام بشكل أساسي، وأنّ عليها أن تخرج من مربّع كونها مطاردةً لتتمكّن من إيصال رسالتها بشكل يجعل النّاس تأخذها بشكل جدّي، وهو ما دفعه لاحقاً لحمل السلاح في صفوف الجيش الحر حتى استشهد –تقبّله الله– على جبهة الراشدين في حلب بعد ذلك بأعوام.

"رح أطلع لو كنت لحالي.." صرّح مالك قبل أن يغادرنا نزولاً في الشارع باتجاه الشرق، لننضمّ إليه تباعاً شابكين أيدينا بشكل صفّ انضم إليه وخلفه ما يقارب الخمسين من الطلاب المنتشرين على طول الشارع.

حقيقةً لا أستطيع التذكّر أَحَدثت مظاهرة ذاك اليوم أم لا، فلم نفرغ من أول كلمة "حرية" هتفنا بها حتى بدأ الشبّيحة هجومهم علينا مفرّقينا في كلّ اتّجاه.

أمدّني الخوف بما يتمناه كلّ عدّاء دوليّ لحصد الميداليات الذهبية، ففي الوقت الذي كان فيه الطلّاب يعانون للهرب من الأمن، كنت قد وصلت نهاية الشارع من طرفه الشرقيّ بعيداً كثيراً عن أٌقرب عنصر أمن من جهتي، لكن الفضول دفعني للتوقّف ومشاهدة ما تركت خلفي..

مجموعة عناصر تكوَّموا فوق شاب يضربونه بالعصيّ.. عنصران آخران يضعان شاباً في صندوق سيارة "ستيشن" المشهورة للأفرع الأمنية في سوريا

مجموعة عناصر تكوَّموا فوق شاب يضربونه بالعصيّ.. عنصران آخران يضعان شاباً في صندوق سيارة "ستيشن" المشهورة للأفرع الأمنية في سوريا.. وعنصر يصارع أحمد مصري (صديقي وزميلي في دفعتي من أبناء حلب) مثبّتاً إياه على جدار.

"كيف أسامح نفسي إذا تركته"..

عدت أدراجي بنفس السرعة التي هربت بها آملاً أن أتمكن من مساعدته، لكنّ قبضَة عنصر أمن على حزام بنطالي وأخرى ثبّتها فوق صدري قاطعاً بها أنفاسي، كانت كفيلة بأن أجد نفسي مع أحمد في باص متوسّط الحجم يقتادنا مع "شلّتنا" كلّها تقريباً إلى فرع الأمن العسكري.

بعد "حفلة الترحيب" في الفرع طبّقنا الإجراءات التي يعرفها الكثير من السوريين، تسليم كلّ ما تحمله كأمانات ثم نزع خيوط حذائك ثم التعرّي وأداء حركَتَي أمان (جلوس القرفصاء ثم الوقوف مرّتين) وذلك للتأكّد من عدم إخفائك أيّ شيء في "مؤخرتك"، ليقتاد بعدها عناصر الفرع شابّين –كان مالك أحدهما– في زنازين منفردة، تاركين بقيّتنا في ممرّ "كوريدور" تَحصُرُه بواباتان حديديّتان في نهايتيه.

كنّا ثلاثين شاباً تقريباً في ذاك الممر نجلس محتضِنين أقدامنا ومطرِقي رؤوسنا في صفّين متقابلين يلفُّنا صمت مهيب يكسره من حين لآخر صوت عنصر الأمن مستدعياً أحدنا إلى التحقيق..

ما زلت حتى الآن أذكر صوت أحمد الخافت قُربي متَمتِماً بكلّ الأذكار التي يحفظها، فيما كان كلّ ما يجول بخاطري هو مصيرَنا المحتوم في (سجن تدمر) أو فرع مشابه لأعوام تالية، فعلاوةً على كون خالي أحد نزلاء السجن سيّئ الصّيت في الثمانينيّات بعد أحداث حماة، كنت قد قرأتُ مؤخراً روايةَ القوقعة التي تصف بالتفصيل الجحيم الذي عاشه كاتبها (مصطفى خليفة) لثلاثة عشر عاماٌ في تدمر.

في تلك الفترة اتّبع نظام آل الأسد نهجاً مختلفاً في تعامله مع (حلب) عن بقية المدن السورية، فقد عَمِد إلى استخدام المشايخ والوجهاء كوجوه ناعمة تتواسَط بينه وبين الناس لتثبيطهم عن الالتحاق بالثورة، كما حاول استمالة الحلبيّين بدعايته الفجّة عن حلب "القلعة الصامدة" ضدّ المؤامرة التي تستهدف البلاد، دون أن ينسى تذكيرهم بأحداث الثمانينات المؤلمة التي نالت منها المدينة حصّتها من القتل والاعتقالات.

ولأن كثيراً من المعتقلين معنا من أبناء المدينة، فقد وصلت العديد من الوساطات لرئيس فرع الأمن العسكري –بعضها من أصحاب الأوزان الثقيلة في المؤسسة الدينية– لتجنيبنا مصير المعتقلين في باقي المدن السورية، والذي يبدو أنه استجاب لها لكن على طريقته "الوطنية" الخاصّة.

بعد ساعات طوال في ذاك الممرّ صرخ بنا عنصرٌ للتأهّب لملاقاة العميد رئيس فرع الأمن العسكري القادم للتحدّث إلينا، والذي بدأ حديثه بخطبة مطوّلة عن إنجازات بلادنا ودورها المركزي في محور الممانعة ومواجهة أمريكا وإسرائيل...إلخ

ليتبع ذلك بلهجة أقل حزماٌ تقترب من حديث الأب لأبنائه عن "تفهمّه" احتجاجنا على بعض مظاهر الفساد، وإن كان ذلك ليس حجة للمساعدة بتخريب حالة "الأمان" التي نعيشها في سوريا، ثم توجّه إلينا بسؤاله عن مطالبنا: "شو بدكن.. ليش طلعتوا مظاهرة؟"

أنكَرْنا بإجابات متتابعة تظاهُرَنا من أساسه، دون أن ننسى التأكيد على دعمنا المطلق للقائد "المفدّى" ونهج "التحديث والتطوير" ووعينا بحجم المؤامرة "الكونية"

العقيد "يعني ما في مطالب.. ما بدكن شي؟!"

نحن "لا.. لا أبداً.."

عبدالفتاح: "لا بدنا..."

وقف عبدالفتاح (أحد طلبة العمارة من أبناء الرقة) ثم أكمل: "بدنا حرّية"

تجهّم وجه العميد وبدت عليه الصدمة بعد كلمات عبد الفتاح الثقيلة ليس على العقيد وعناصره وحدهم بل علينا أيضاً، ثم كرر سؤاله مرة أخرى كأنه لم يصدّق: "شو بدك؟!"

"بدنا نصير بشر.." أجابه عبد الفتاح

العميد "كيف يعني؟!"

حاول بعضنا إسكات عبد الفتاح الذي وقف مواجهاً العميد تالياً مطالب الثورة السورية بداياتها دون أن يُخفي تذمّره من "القيادة"، ودار نقاش طويل بينه وبين العميد كانت كلماته فيه كافية لانقطاع الرجاء لدى أغلبنا من مغادرة الفرع.

أنهى العميد النّقاش على مضض بعد أن ضاق ذرعاً بصلابة عبد الفتاح وقدرته على المناظرة، ثم التفت إلينا زافّاً البشرى بقرار "السّيد الرئيس" إلغاء قانون الطوارئ، مؤكّداً أنّ الإصلاحات في البلاد ستستمرّ استجابةً لمطالبنا، وأنّهم سيُفرجون عنّا تأكيداً على شكل المرحلة الجديدة..

احتفلنا بالقرار على عادة السوريين في مواقف شبيهة "بالروح.. بالدم.. نفديك يا بشار.."

إحدى المرات التي استدعي فيها كانت بتهمة التنسيق لمظاهرة حدثت أثناء اعتقاله في فرع آخر

تسلّمنا أماناتنا –دون شرائط أحذيتنا– وفُتِحَت لنا الأبواب إلى الحرّية في الساعة الثالثة ليلاً، وبقي عبد الفتاح معتقلاً يومين إضافيّين قبل أن يفرجوا عنه أكثر إصراراً على موقفه العلنيّ الذي جعله نزيلاً اعتياداً عند أفرع الأمن المختلفة في الجامعة والمدينة، حتى أن إحدى المرات التي استدعي فيها كانت بتهمة التنسيق لمظاهرة حدثت أثناء اعتقاله في فرع آخر.

سألته مرّة "لمَ لم تسكت يومَها كما فعلنا جميعاً؟!"

قال لي بلهجته الشرقية: "نحن على حقّ.. وهم على باطل.. بس إذا حسّم إنّا خايفين نطالب بحقنا مارح يحترمونا.. ولا رح يقتنعوا إنه قدرانين ندافع عنه"

هو ذاك.. الخيط الرّفيع بين التهوّر والشّجاعة.. الدّافع.. القضية.

قادَ عبد الفتاح الرومي إحدى طلائع الثوار أثناء معركة تحرير مدينته الرقة، ليستشهد على مشارفها في الثالث من شباط 2013.

فسلام الله عليك في الخالدين.