الإبداع والعار

2019.12.09 | 21:20 دمشق

bbbbrryrarrar.jpg
+A
حجم الخط
-A

"لوي فيرنان ديتوش"، والمعروف أدبياً باسم "سيلين"، طبيب وكاتب فرنسي حصلت روايته "سفرٌ في نهاية الليل" والتي نشرت سنة 1932 على أهم الجوائز الأدبية في فرنسا. وكان النقاد يعتبرون سيلين من أهم المجددين في الأدب في القرن العشرين. وكانوا ينظرون إليه ككاتب استثنائي لعب دوراً حاسماً في تاريخ الرواية المعاصرة خصوصاً لأنه ساهم في إدخال اللغة المحكية في الأعمال الروائية. أسلوب ثوري حينها حاول من خلاله مقاربة الشعور الفطري للغة المحكية هذه.

بموازاة الإبداع الأدبي، عُرف سيلين بعدائه للسامية واقترابه الإيديولوجي من اليمين المتطرف، حيث اشتهر بنصيّن مغرقين بالكراهية ضد اليهود خلال ثلاثينيات القرن الماضي. الأول عنوانه "تفاهات لمذبحة" والثاني "مدرسة الجثث". وقد أبدى فخره بهذا خصوصاً عندما أرسل النص الثاني إلى أحد النقاد الأدبيين القريبين من جهاز الدعاية النازي قائلا: "نشرت كتباً فظيعاً معاديا للسامية، أرسله لك. أنا العدو الأول لليهود".

وقد شعر سيلين بالكثير من السعادة باحتلال بلاده من قبل الألمان مما دفعه للتعاون مع المحتل النازي خلال تواجده في فرنسا (1940 ـ 1944)، وخصوصاً مع جهاز أمنه السري الرهيب "الغستابو". ولقد برر هذا التعاون / الخيانة بأنه يتصدى للخطر الشيوعي القادم من الاتحاد السوفييتي حينها حسب تعبيره.

بعد التحرير، هرب سيلين ولجأ للدانمارك ومن ثم عاد إلى فرنسا بحيلة قضائية من محاميه وتابع الكتابة والنشر في كبرى دور النشر، واستمرت أعماله الأدبية بالصدور حتى يومنا هذا بعد موته سنة 1961. إذاً، سيلين أديب مجدد ومبدع ولا يمكن للمرء إلا أن يشعر بالمتعة عند قراءة نصوصه الأدبية بعيداً عن النصوص الكارهة لليهود أو للشيوعيين. فهل يمكن لأدبه الراقي أن يجبَّ نازيته وعنصريته وخيانته لوطنه؟

أدولف هتلر أحب الموسيقا الكلاسيكية التي تهذّب النفوس نظرياً، وبالتالي، لا يمكن الحكم على هذا النوع الموسيقي بأنه يُشجع المجرمين كهتلر

قصة سيلين تكررت وتتكرر وستتكرر في محيطنا "الإبداعي" العربي عموماً والسوري خصوصاً والذي يشمل أجناساً مختلفة من الفنون والآداب. وأكثر ما يحرّض ردات الفعل المتفاوتة، هو التحصّن بإبداع الإنسان لحمايته من أية مساءلة أخلاقية. ولدى البعض منا طهرانية متطرفة تسعى أو تدعو إلى فصل الموقف الأخلاقي عن الإبداع. فالشاعر فلان مبدع، ومرشّح دائم لكبرى الجوائز الدبية، فلا داعي لمحاسبته، ولو معنوياً، على مواقفه السياسية المحابية للطغاة والتي تحمل في جوانبها طائفية سمجة وعنصرية مقيتة ولا على اعتباره بأن كل الضحايا الأبرياء هم حاضنة اجتماعية لإرهاب حقيقي أو متخيل. أما المخرج ذاك فهو مبدع، ويمكننا أن نستشهد بمن كتب عنه من كبار المخرجين الغربيين، ونبتعد عن تقييم مواقفه الأخلاقية من موت أطفال بلده وتصويره لأفلامه على أنقاض مدن دمرتها براميل الديناميت. وهاك الرسام مبدعٌ حيث تقتني لوحاته كبريات دور الفن التشكيلي في العالم وقد حاز على جائزة كذا من أهمها، ولا يهم إن سخر من موت الفقراء تحت القصف أو تعذيب مخالفيه في الرأي في أقبية الأمن. ونكاد نختم، لأن القائمة تطول وتتشعّب، بالإشارة إلى موسيقي مبدع لطالما أطربنا، ونُغفل دعمه لغزو بلد جار من طاغية جبار بحجج المقاولة والمماتعة.

أدولف هتلر أحب الموسيقى الكلاسيكية التي تهذّب النفوس نظرياً، وبالتالي، لا يمكن الحكم على هذا النوع الموسيقي بأنه يُشجع المجرمين كهتلر، وهنا يتم الفصل بين القاتل وبين الإبداع حتماً. كما أن الجنود الأمريكيين قتلوا آلاف الفيتناميين وهم يستمعون إلى موسيقا باخ، وهو من جرائمهم براء. وإن أحبّ صدّام حسين غناء أم كلثوم مثلاً، فهذا لا ينتقص من إبداعها في شيء. بالمقابل، فالفصل هنا حتمي أيضاً.

أما الفصل بين إنتاج المبدع نفسه وبين مواقفه العامة وأخلاقياته وتصرفاته، فهذا يستحسن ألا يكون مقبولاً وألا يجهد الناس في إيجاد المبررات التي لا رأس لها ولا قدم. ففصل الإبداع عن الموقف الأخلاقي، والمقصود حتما ليس الورع والتهذيب التقليدي والحشمة المطلوبة في بعض المجتمعات على تنوعاتها، وما إلى ذلك من قيود مجتمعية وثقافية ودينية متصلبة، فهذه حرية شخصية، إنما المقصود هو الموقف من موت الأبرياء، من تعذيب البشر، من تلويث البيئة، من تدمير التراث، من إفقار الشعوب، من اغتصاب واستعباد النساء، من رمي البراميل على المدن، من قصف المدنيين، من جميع الانتهاكات التي تمس الذات البشرية والتي لا تتأتى إلا من طغاة وفاسدين ومستبدين ومجرمي حرب ودعاة إبادة.

الفصل والحال كهذه هو عملية تبرير لانحراف ذاتي عن اتخاذ الوضوح موقفاً والمبادئ الإنسانية المجمع عليها كونياً حدوداً. سيلين مات منبوذاً رغم ثرائه ورغم استمرار دور النشر بطباعة أعماله. وقد شكل وضع اسمه سنة 2011 في لائحة 100 شخصية مبدعة في فرنسا فضيحة كبرى أرغمت وزير الثقافة على سحبه. كم من المبدعين في يومنا هذا يُلفظون في مزابل التاريخ من قبل المجتمعات الحرة، فرومان بولانسكي، المخرج البولندي العظيم، مغتصب أطفال، ولا يمكن لإبداعه أن يجبّ جرائمه. كما أن شعراء القتل ورسامي الموت وموسيقيي التعذيب ومترجمي العار، مدانون في حياتهم كما بعد موتهم، ربما ليس قضائياً ولكن إنسانياً على أقل تقدير.