الأرواح الميتة

2023.03.14 | 05:53 دمشق

shwn_alasd.jpeg
+A
حجم الخط
-A

في روايته الشهيرة رحلة بالداسار للروائي اللبناني أمين معلوف، تمضي مارتا ردحاً من عمرها وهي تبحث عن ورقة واحدة تمنحها الخلاص من هذا الارتباط الزوجي، الذي يطوق عنقها ويحكم قبضته على تفاصيل حياتها، فقد سافر زوجها سياف وغاب عنها وانقطعت أخباره عنها لسنوات، ولا تدري أحي هو أم ميت، فهي لا تملك شهادة وفاته التي ستطلق سراحها وتعيد لحياتها القدرة على الحياة ثانية، فلا هي متزوجة من رجل يملأ حياتها ولا هي أرملة يمكنها أن تعيش الحب وتتزوج ثانية.

هذه الورقة كانت وما تزال أقصى حلم المعتقلين في سجون الأسد، خلال خمسين سنة. حتى المحكوم براءة لا يكفي هذا الحكم لخروجه من السجن، ويتساوى في هذه العقبة البريء أو من انقضت مدة حكمه، بل يحتاج لما هو أهم "صدور عفو رئاسي"، ورقة العفو هي من تمنح البريء خروجه من السجن وليس حكم القاضي.

هذا أمر من كتب له أن يخرج حياً من ذلك الجحيم، أما من قضى نحبه هناك، فاللعنة الأسدية تلاحق ذويه لسنوات طوال، مع الأخذ بالحسبان أن كثيراً من هؤلاء الأبرياء لم تجر محاكمتهم إلا بعد مضي عشر سنوات أو أكثر على اعتقالهم.

هذه مأساة من عشرات المآسي التي تعيشها المرأة السورية التي غيب الأمن وعصابات الحكم زوجها، أو ابنها أو والدها أو شقيقها. فلا هو حي فتنتظر رجوعه ولا هو ميت فيسكن قلقها وحزنها وتستمر حياتها كما ينبغي لها

هذه مأساة من عشرات المآسي التي تعيشها المرأة السورية التي غيب الأمن وعصابات الحكم زوجها، أو ابنها أو والدها أو شقيقها. فلا هو حي فتنتظر رجوعه ولا هو ميت فيسكن قلقها وحزنها وتستمر حياتها كما ينبغي لها، إنه يستمر في اعتقال حياتهم وأرواحهم بقصاصة ورق يمنعها عنهم، ذات القصاصة التي انتظرتها مارتا بطلة أمين معلوف لتستمر في حياتها ولتطوي ملف الحزن والانتظار.

في عام 1980 تم اعتقال الصديق فاضل، وهو باحث جيولوجي سوري بتهمة انتمائه لتيار سياسي معارض، وفي الشهر التاسع من نفس العام حكمت عليه محكمة عسكرية ميدانية بالإعدام تعسفاً، وبعد شهر من هذه المحكمة تم إعدامه مع عدد كبير من أصدقائه الذين حكموا بالإعدام أيضاً. لم تنته هذه الحكاية هنا كما جرت العادة، حيث بقي فاضل وآلاف الضحايا أحياء في قيود السجلات المدنية، وهذا يمنع عائلته من إعلان وفاته وإنهاء حزنهم الطويل، كما يقطع عليهم سبيل توزيع تركته وتحريك ممتلكاته ومنح زوجته حق القدرة على السفر أو الزواج أو أي فعل يمكنها أن تفعله بصفتها سيدة غير مرتبطة.

البارحة اتصل بي ابن صديقي فاضل الذي أُعدم منذ 43 سنة ليخبرني أنهم استطاعوا أخيراً الحصول على شهادة وفاة لوالده!

لقد تاجر "تشيشكوف" في رواية غوغول "الأرواح الميته" بأرواح العبيد الميتين الذين لم توفهم السجلات المدنية واستطاع جني ثروة من خلال رهنهم الوهمي للبنوك، لكن لم يجل بفكر نيكولاس غوغول ذلك العملاق الروائي، أن رجلاً شيطانياً سيأتي بعد عشرات السنين ليستثمر بأرواح القتلى والضحايا الذين قتلهم، ويصنع عبرهم أهرامات من الرعب تقف منتصبة لتعيق سير وتطور شعب برمته كما فعل نظام الأسد، عشرات آلاف السيدات اللائي فقدن أزواجهن، هن إلى اليوم مرتهنات لذلك الزواج وعاجزات عن المضي بحياتهن كما تفعل سائر النساء، عشرات آلاف الصبايا اللائي يرفضن الزواج انتظاراً لعودة الأب المغيب، عشرات آلاف المصالح والعقود والعقارات وغيرها كثير من القضايا المعطلة والمعلقة التي لا تقضى إلا بعودة هؤلاء المغيبين أو بحسم مسألة وفاتهم بشكل قانوني.

في معتقل تدمر وحده هناك ما لا يقل عن 25 ألف ضحية أُعدمت على أعواد المشانق في الساحة السادسة، أو قتلت في ساحات التعذيب أو ماتت من الجوع  والأمراض التي فتكت بها، من جميع الضحايا لم تحصل سوى مجموعة صغيرة من العائلات على شهادة وفاة يوقّعها قاض بموجب دعوى يتقدم بها أهل المتوفى، ولكن أي محام في "سوريا الأسد" يملك جرأة الإقدام على عمل انتحاري كهذا، قد لا تكفي حياته ثمناً لهذا الفعل المتهور.

لم أعرف خلال أربعين سنة مضت سوى بضع حالات تقدم بها المحامي هيثم المالح وحصل بعد مناكفات طويلة على شهادة وفاة لأشخاص مضى على وفاتهم قتلاً أكثر من عشرين سنة، طبعاً هذه الشهادات لا تذكر أبداً سبب ومكان الوفاة إلا في حالات نادرة، أما عن مصير الجثامين فإنها مغيبة في مقابر جماعية لا يعلم بها إلا الله، وهذا فصل آخر من الاستهانة بحقوق الانسان وكرامته.

في مطلع 2018، تم تبليغ العديد من العائلات السورية ممن اختفى أبناؤهم لزمن طويل لاستلام شهادات وفاة لأقاربها المفقودين، وأُصدرت الوثائق المذكورة بعد إشعار رسمي من تلك الأجهزة، واكتفت بتسريب بعض الأخبار عن وجود هذه الشهادات في مكاتب السجل المدني لإجراء معاملات روتينية.

بلغ عدد هذه الشهادات 547 شهادة حصلت عليها الشبكة السورية لحقوق الانسان، بينها شهادات وفاة لـ15 طفلًا و19 امرأة، ولم تُدّون أي ملاحظة او إشارة لسبب الوفاة. وكانت الشهادات مقسمة إلى قسمين: قسم يسمح النظام للعائلات باستخراجها لإجراء المعاملات القانونية المتعلقة بها وقسم آخر لا يسمح النظام باستخراجها لأسباب ما تزال مبهمة، والمرجّح أن هذا يتسق مع منهجية النظام الأمني في التعاطي مع رعاياه، فلا يصلون إلى أي حقيقة أو معلومة إلا وفق هندسة غامضة يديرها ويدير البلد من خلالها.

علة العلل ومربط الفرس في مجمل هذه القضايا هو زوال هذا النظام الذي تتلازم هذه الممارسات والتجاوزات الإجرامية مع بنيته القمعية، والذي لن يبقى له وجود إن هو تزحزح عنها قيد أنملة، لا توجد للمأساة السورية حلول جزئية ولا حلول ترقيعية، استمرار التغييب القسري والقتل المستمر وغياب القانون، مرتبط ارتباط عضوي ببقاء هذا النظام أو زواله..

مرة أخرى تقدم العديد من الهيئات الحقوقية والدولية والإنسانية توصيات بفتح السجون أمام لجان تحقيق دولية، وإطلاق سراح المعتقلين، وإخضاع الأجهزة الأمنية والعسكرية لرقابة القانون، وغيرها كثير من التوصيات الحميدة التي لا تزن بقيمتها الفعلية وزن قشة.

علة العلل ومربط الفرس في مجمل هذه القضايا هو زوال هذا النظام الذي تتلازم هذه الممارسات والتجاوزات الإجرامية مع بنيته القمعية، والذي لن يبقى له وجود إن هو تزحزح عنها قيد أنملة، لا توجد للمأساة السورية حلول جزئية ولا حلول ترقيعية، استمرار التغييب القسري والقتل المستمر وغياب القانون، مرتبط ارتباط عضوي ببقاء هذا النظام أو زواله.

أين الآلاف المؤلفة من المختفين قسرياً منذ عام 1980 إلى يومنا هذا؟ والذين ذابت أجساد معظمهم في تراب المقابر الجماعية التي لا تحصى، حيث تتجاوز أعدادهم من دون أدنى شك مئات الآلاف، والأرجح أنها تتعداها، سؤال برسم الأمم المتحدة والهيئات الدولية المنافحة عن حقوق الإنسان.