icon
التغطية الحية

الأبقار تموت في القرى المجاورة

2022.10.21 | 13:06 دمشق

بديل
+A
حجم الخط
-A

تخيّل، أيها الناجي من جنون العالم الثالث، أنك تملك أوراق إقامة شرعية وفائضاً مالياً ووقتاً كافياً لتجول بين عدد من المتاحف العالمية؛ سترى الخنجر الحجري والحديدي والنحاسي وصولاً للمُحلّى بالذهب والفضة والمزين بالأحجار الكريمة... لا يغب عن ذهنك أن مكاناً سيضاف للموسى الكبّاس بعد مئات السنين؟ إنه تاريخ خاص لسلالة السكين، لكنهم احتاجوا لوقت طويل حتى جمعتهم صورة عائلية واحدة!

يميل أنصار نظرية انتشار الحضارة إلى إعطاء الأدوات صفة (السلالة)، وكأنها متوالدة عن بعضها، لكنها في الحقيقة ليست إلا مبتكرات بشرية بدافع الحاجة "ليس لها تاريخ خاص، وربما نقول إنها معالم للسِّيَر الفردية الإنسانية والتواريخ الجمعية، إنها تدفقات لتلك السِّيَر والتواريخ أو ترسبات لها". جاءت الآلة شبيهة بالطفرة على عالم الأدوات. لعل ذلك ما أبطأ تقبّل الناس لها. على سبيل المثال، استخدم الفلاحون في أرياف العالم الثالث أدوات أقرب للبدائية في زراعتهم حتى أوقات متأخرة من القرن العشرين، وكانوا يستخدمون للدَريس واستخراج الحبوب من سنابله اللوح الحديدي المثقل بالأوزان، حيث يقف فوقه (الداروس) ويوجّه البغل أو الكديش بشكل دائري فوق القش. لا شكّ أن اختراعاً كالدرّاسة الآلية يوفّر كثيراً من الجهد والوقت، لكن أحد مزارعي قريتنا تأخر كثيراً حتى تقبل فكرتها فقد كان يحلف الأيمان بأن التبن الذي تطرحه الدرّاسة من قفاها مليء بالسفير، وكان يدلل على ذلك بموت عدة أبقار من جرّاء ذلك في قرى مجاورة مختلفة. لا يضحكنَّ أحد من أوهامه؛ إنه يشبه إلى حد كبير الفرسان الذين واجهوا البندقية والمدفع بالسيف بدافع الشرف؛ كان القتل عن بعد بالنسبة للمبارزين أشبه بخيانة التقاليد، بنظرهم كانت البندقية بدعة كافرة. لو بقوا إلى الآن لرأيتهم يمتشقون بيض الهند من فوق الخيل الغر المُحجّلة ويصرخون في وجه الصواريخ العابرة للقارات: "دونك سيوفنا أيتها الغربان المشؤومة".

احتاجت قناة بث إذاعية (راديو) اثنتين وعشرين سنة للوصول إلى ثلاثين مليون مستخدم بينما احتاج التلفزيون سبع سنوات واختصرها الإنترنت لخمس سنوات فقط

نظريات عديدة قامت لدراسة انتشار الأفكار بين الناس، منها نظرية انتشار المبتكرات. اختارت الدراسة فلاحي العالم الثالث كعينة، وافترضت أن وسائل الإعلام أكثر فاعلية في زيادة المعرفة حول المبتكرات، بينما تكون قنوات الاتصال الشخصي، عبر الشخصيات العامة وقادة الرأي، أكثر فاعلية في تشكيل المواقف حول المخترعات الجديدة. شبّهت الدراسة دور قادة الرأي هنا بدورهم في عمليات التصويت والانتخابات، بما لتواصلهم الشخصي من أثر في دفع أتباعهم والمتأثرين بآرائهم إلى خيارات محددة. ومنها أيضاً نظرية الغرس الثقافي التي بحثت في دور وسائل الإعلام والتلفزيون على وجه الخصوص في التأثير بأفكار الناس. في نهاية ستينيات القرن الماضي (بعد اغتيال جون كنيدي، ومقتل مارتن لوثر كينج) خلصت دراسة تبحث في دور التلفزيون بزيادة مستوى العنف والجريمة في الولايات المتحدة الأميركية إلى أن التلفزيون "أصبح قوة مسيطرة على كثير من الناس، ومصدراً رئيسياً لبناء تصوراتهم عن الواقع، وبالتالي أصبح الفرد يعتمد في علاقته مع الآخرين على الواقع الإعلامي المدرك من التلفزيون". يمكننا اليوم استبدال (تلفزيون) بـ(الإنترنت) بما فيه من متصفحات ووسائل تواصل، حيث يحافظ التلفزيون على منصته من ضمنها، ولكن كخيار من بين خيارات كثيرة، وبالتالي يدخل على الدراسات السابقة عامل جديد، وهو القدرة على الانتقاء مقارنة بالتلفزيون محدد الخيارات نسبياً.

احتاجت قناة بث إذاعية (راديو) اثنتين وعشرين سنة للوصول إلى ثلاثين مليون مستخدم، بينما احتاج التلفزيون سبع سنوات، واختصرها الإنترنت لخمس سنوات فقط. هذا يعني أن الأفراد الأوائل من عائلة التلفزيون والراديو وجدوا أماكنهم في المتاحف، في الوقت الذي يتحول اسم (تلفزيون) إلى (شاشة)، ويبني عالم الحاسب والحوافظ الإلكترونية والإنترنت تسلسله الخاص، لكنه أيضاً سيأخذ مكانه يوماً ما في المتاحف العالمية وسط غرف زجاجية متفاوتة الأحجام. هل يخطر على بال أحد الآن ما كانت أنظمة عالمنا الثالث تحشو به برامجها التلفزية والإذاعية حول العولمة والحرب التي تُشن ضدنا عبر الموبايل والإنترنت؟ّ 

تستمر سيرة الإنسان منذ أول حجر ألقاه على طائر حتى المراكب الفضائية التي تغزو الكون, ولكنه سيبقى على حاله متأخراً في قبول الكثير من الأفكار المفيدة، ومقيداً بالكثير من الأفكار والتقاليد التي تحيط برأسه كالأقماع. وحتى قادة الرأي كثيراً ما يلتزمون بتوجيهات نظامهم الاجتماعي إذا ما كان تقليدياً، ويسردون قصصاً كثيرة عن أبقار تموت في القرى المجاورة، ويقترحون مواجهة الصواريخ الموجَّهة بالسيوف (كلّ بطريقته). وإلا كيف يمكن أن نبرّر برامج ما زالت تُعدّ في عام 2022 وتُخصص لها ميزانيات وتُبث على شاشات التلفزة عن مجنون ليلى، في الوقت الذي تكتظ صفحات اليوتيوب بقصته وبمسلسلات وأفلام عنها؟ هل قدرتنا على الإعادة نابعة من عجزنا عن استيعاب الجديد أو فهمه؟

لا أعرف بماذا يمكن أن نُجيب إحدى المجلات التي ترفض أن يُستشهد بقصيدة النثر في مقال ثقافي، أو تلك البرامج والمسابقات التي تستثنيها من ضمن شروطها.. هل هو عجز المُحكّم أم قصور الرؤية؟ لو قرؤوا دفاتر الأيام لعرفوا ان أسلافهم رفضوا قصيدة التفعيلة قبل عدة عقود واعتبروها مآمرة على اللغة كما يفعلون هم الآن! ألم أقل لكم ألا تضحكوا على فلاح تأخر بعض الشيء حتى قبل إدخال الدرّاسة الآلية إلى حقله، ومن بعدها الحصّادة! آه لو كانت قصيدة النثر حصّادة لكانوا اقتنعوا منذ زمن.

(من أنا لأقول لكم ما أقول لكم؟) فليس لدي أوراق إقامة تمكنني من التجول حتى في المدينة التي أسكنها، وجدران الشرق تضيق من حولي وسقفه يكاد يطبق فوقي. منبوذ مثل أي أحد يرفض العودة إلى الوراء (كان بالإمكان أن أقول: وأُفردت إفراد البعير المُعبّد)، مفتون بحكمة الزمن: إلى الأمام، لكنني في الحقيقة أكتب ما أكتب الآن بعد عجزي عن نشر مقال كتبته عن سوريا، حيث تجتاحها كل قوى الماضي لتسد كل أبواب مستقبلها؛ نصحني أحد الأصدقاء بعدم نشرها في الوقت الحالي، قال لي: "لو تفكر بحل مشكلة أوراقك، يكون أفضل" ولكن، (من أنا لأُخيّب ظن العدم؟).