icon
التغطية الحية

"اشرب ابتسامتك دون تسخين" لـ كوثر العقباني.. وجعُ وطن وخوف وشفافيةٌ قلقة

2021.10.23 | 11:51 دمشق

ashrb_abtsamtk-_tlfzywn_swrya.png
محمود أبو حامد
+A
حجم الخط
-A

تعلن الكاتبة والشاعرة السورية كوثر العقباني بجرأة عن قصيدتها النثرية في ديوانها الأول "اشرب قهوتك دون تسخين"، ويتخلل هذه التجربة كثير من الجمل الشعرية اللافتة واللغة الموحية بمجازاتها ورشاقتها، محاولةً التقاط التجارب العاطفية الوجدانية والتجارب اليومية في آن واحد.. لكن ثمة شفافية قلقة تولّد تناقضات في ارتباك التناول لها حيناً، وفي علاقة الذات بما يحيط بها أحياناً أخرى، تباين المستويات بين بعض القصائد وتبدد الرؤيا الشعرية في بعضها الآخر، يكتنف الخوف معظم القصائد المناجية للوطن والحاضنة للإنسان؛ الخوف من الحرب وتداعياتها وظلالها والخوف من الذكريات والتشرد واللجوء.. والخوف من الزمن.

في قصيدة "لماذا" ثمة تساؤلات عميقة ترتقي بعلاقة العشق حد التماهي، "لماذا لم تنغمس روحك في تأمل ذاتها لتراني"، وهذا العاشق المتسول الذي يرصد أحلامها بهدأة الحنين وهو كل حنينها، تطالبه أن يأخذ من حلمها ما يشاء لكي يهبها أملاً من بريق صحوه، وأن ينبثق كالفجر ليمحو سواد الليل.. ويكون في محصلة هذا التداعي الغائب الحاضر:

"فيا أيها الغائب/ الحاضر في دمي أزلاً/ بدد مسافات أدمت أضلعي برداً/ واجعل وجهي جواز عبور/ لضفاف الدفء عشقاً".

لم تتوقف المقاربات والمفارقات المتناقضة على المفردات (الحلم والصحو، البرد والدفء، الفجر والليل، الحاضر والغائب) وحسب، بل ثمة شفافية قلقة في تناول الحالات النفسية الوجدانية أيضاً، فهو المتيم والمتسول العاشق، وهو الذي يرى ذاته كي يراها، قدره الذهبي بين يديه، وهو البعيد القريب، ومحررها من أنساغ بعده. لكن ما يمنح القصائد هذا التناقض وهذا الارتباك هي مصداقية التعبير، الشفافية القلقلة التي تعيشها الشاعرة بحالات من التأملات والتداعيات والذكريات، وحالات من العشق النفسي، والجسدي أيضاً:

"هدهدني بدفء أنفاسك/ واترك لمساماتي الشهيق/ يتغلل في أوردتي ..

الثم الندى من سرتي/ المعقودة بحبل القمر/ كلما صهل بضماره طرباً/ ازداد صحوي أنوثة".

القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها "اشرب ابتسامتك دون تسخين" تُبحِر في المجاز أو الاستعارة إلى حد الدفء

ترتقي شفافية القلق في قصيدة "اختلاف" إلى عنوانها، وتتبلور مصداقية المشاعر الداخلية مع "رؤيا" القصيدة،  أو حبكة الحكاية، فثمة حالة حب أو مشروع علاقة تكون فيه المرأة نداً صلباً وقوياً للرجل، تستهل الشاعرة القصيدة بامرأة تعتز بأناها، تعي كينونتها، وجمال جسدها وروحها، كالشجرة تقلّم أظافرها ولا تخدش اخضرار الأماني، وحين يسدل الليل ستاره ترتدي لون السماء وتحاور النجوم فتكتب حواراتها على صلوات الفجر.. ومن ضفته يعلو الضجيج وتحاصر اليعاسيب ملكات النحل، ويُلتَهم العسل من دمع المقل:

"فكيف ستعي معنى اللقاء/ ومناديلي التي لوحت بها/ مزقتها أشواك دروبك/ كيف ستنصت لصوت نبضات قلبي/ وقد صم أذنيك لهاث الفحولة امتلاكاً؟".

القصيدة التي يحمل الديوان عنوانها "اشرب ابتسامتك دون تسخين" تُبحِر في المجاز أو الاستعارة إلى حد الدفء، وتبتعد كلية عن معظم القصائد من حيث بيئة المفردة والإيقاع الشعري، والموسيقى الداخلية ورشاقة اللغة، فهي تحكي عن يوميات الواقع بمصداقية، لكن هذه المصداقية تمنح للقصيدة مستويات مغايرة يشوبها التبسيط المتناقض مع العنوان اللافت والموحي:

 "بضع دقائق وتحترق الشوربة/ أقصد تستوي/ ولا أحب طعمك الحامض/ والسكين حاد جداً/  لم أنس/  لأني لم  أحضر خضاراً/ لا أملك نقوداً/ وقد ارتفعت الأسعار ضعفين..".

يظهر التفاوت عند الشاعرة كوثر بين قصيدة وأخرى حين يغدو التبسيط في الكتابة "بقرار" عن موضوع يشغلها، وقد تغدو القصيدة/ النص مختلفة في كل سطورها ومعانيها كما في قصيدة "لم نسع المدى" التي تتحدث فيها عن السلام والحرب وحقوق الإنسان والبترول والفقر.. وكما في قصيدة "أنت لست إلا قضية" التي تتحدث عن الحرية وعن أميركا والغرب وقضايا الشعوب. لكن ثمة قصائد تبدو للوهلة الأولى أنها إنشائية كما في"التنانير القصيرة علامة على الحداثة" لكن الشاعرة تتقصى عبرها هموم الناس، وتلامس معاناتهم، وتقترب من تفاصيل حياتهم، وتنزل معهم إلى قاع المدينة: "تناقضات المدينة تؤرقني/ قصور مزينة/ بيوت فقيرة/  أرصفة نائمة / وأخرى تطلب اللجوء..". ومن ثم تمنح لتكملة هذه القصيدة مفارقات موحية تنقل هذا التبسيط إلى معانٍ تلامس العمق الإنساني وصولاً إلى الأبعاد الاجتماعية وحتى السياسية. ففي الوقت الذي تضحك فيه شوارع بغنج مقفر، تفر أخرى صارخة هاربة، تصير التنانير علامة على الحداثة، مقابل علامة لحداثة التعذيب على جثة سجين:

"التنانير القصيرة علامة على الحداثة/ وآثار علامة على حداثة التعذيب/ على جثة سجين/ منهار سلفاً منذ الولادة/ تصهرني التناقضات/ يسيل جسدي كسائل ناري/ في يتجمد بفعل الخدر..".

خوف وحرب

الخوف الذي يكتنف معظم قصائد الديوان، يتبدى بوضوح في معاناة الوطن وهمومه وحروبه ومآسيه. قصيدة "للمعنيين" خطاب ومناجاة وتضرع ومؤازرة في آن واحد.. للمعنيين مثل والدها الذي زرع لتخضرّ المواسم، وأمها التي خبزت لتبني الحياة، وأختها الصابرة التي تخفي دمعتها كي لا تجرح تجاعيد أمها.. ولأخيها الذي ما زال دمه رطباً، ولقلبها الذي كسره الوجع والظلم وموت من تحب. جرح وخوف وحياة، وأرض وماض وحاضر.. قصيدة تكثف بحزن شفيف وضعنا الموجع والحرج أيّاً ما كنا في هذا الوطن. فمكونات هذه القصيدة تلامس كل العالم الممسوس بالخوف والقهر.. كل الأمهات المثكولة والأحبة المنذورين للافتقاد.. لكنها قصيدة الإصرار على البقاء والاستمرار في الحياة الحرة المفعمة بالتحدي:

"أيها الخوف المتجذر/ متى تتوقف عن كسر اليقين/ متى تتوقف عن خطف الرغيف/ متى يصحو الضمير؟ الأرض لي/ لجراحي التي ما فتئت أرتقها لتنكأها من جديد..".

في قصيدتها "وشم في ضمير الغائب" ثمة خوف من تداعيات الحرب، خوف من صوت الموت، من الشظايا العمياء التي تجهل الجهات وتغتال الوقت.. لكن ثمة خوف من قدم مبتورة، يتجلى بوح صاحبتها في حوار مع جزع شجرة يابسة تشابهت معها بجفاف الروح وموت النبض، الشجرة تنتصب لتثبت تراب الأرض، وهي تنتصب ساخرة من تداعيات الحرب:

"تلك القدم المبتورة/ كانت وشماً في ضمير غائب/ يصحو رهبة/ ليموت وهماً/ كانت إشارة رعب/ لأبناء لم يكتمل زغبهم بعد/ أفواه تطلب الخبز/ ولا قمح في الأرحام/ وحدها مناجل الخوف/ تحصد الرؤوس/ لم تعد جفرة وطني".

وإن كانت الشاعرة، في تناولها للحرب، تلامس القضايا العامة في جوهرها عند الإنسان في أي مكان، فإنها في قصيدة "إننا مهزومون في انتصاراتنا" التي تتحدث عن تداعيات ما بعد الحرب "حين تطوي رعشات الخوف هامات السنين"  تحدد مدينة دمشق كمكان بعينه:

فآهٍ دمشق/  يا نخز الضمير في أزمنة النفاق/ وعهر الوطنية/  يا هوية الدم المستباح رهناً/ يخنقني صوت الأنين/ يخنقني لهاث سحب الدخان السوداء/ وهي تنفخ في صور القيامة/ ليصهل الموت نشوة/ فالحرب لعبة الدماء".

في قصيدة "الرحيل يمتشق الدروب" تأخذ الشاعرة الجانب "الاغترابي" من تداعيات الحرب، والدوافع القاسية التي أدت للنزوح والمعناة من مآسي التشرد واللجوء، وهذا الخوف المتربص في الجغرافيا المجهولة والأوطان الجديدة.. من الملاجئ المشرعة للريح والبرد، والأرض اليابسة إلا من دموع المشردين، إلى رحيل يمتشق الدروب، يبدد الغيم ويبذر القهر جفافاً:

"تكبر الصحراء/ تضيع في اتساع رملها الواحات/ محض سراب يوهم بالارتواء/ ويندس صامتاً كالصقيع في جيب الخوف".

وثمة خوف داخلي ترتله الشاعرة في قصيدة "لا صوت يردده الصدى"، خوف ينزّ من جدران الوحدة، ومن ألوان الأشياء المتشحة بالرماد.. من لوحة منسية أتلفها الصقيع. وتشهق ارتجافات الآه ملحاً في ليل يقهقه خيبة.. تُطرق أبواب السكون ولا صوت يردده الصدى..

"نبض يشق الصدر خوفاً/ يتلو القدر ماجناً/ كغجرية تلهو بصوت أساورها سكراً/ أتشظى رعباً/ أصير أربع نساء في امرأة واحدة/ وأتبعثر في كل الجهات/ يكسرني الضوء/ أتـــــوه/ فأشهق نفسي/  وأنطفئ".

 نبض الوقت

تمنح الشاعرة كوثر العقباني للوقت في ديوانها حيزاً خاصاً، يأخذ أشكاله وتجلياته في الوقت كبندول للساعة، والوقت في تعاقب الليل والنهار، والوقت كزمن وتاريخ، وذكريات جميلة ومآس غابرة.. والوقت كندم وحساب وخطيئة وعقاب.. والشفافية القلقة تمنح للوقت بعداً مباشرة في بعض الأحيان، لكنه يتسرب بين السطور في أحيان أخرى. ففي بداية قصيدة "لا توقف النبض ساعة الشهيق" تخاطب المتلقي بشكل مباشر بأن لايوقف الوقت في منتصف ساعة الشهيق، موضحة أن الوقت محض خرافة عمياء، زرقتها سماء وبياضها غرق.. إلا أن الوقت في ثنايا القصيدة يأخذ بعداً فلسفياً ودينياً، وصولاً إلى "يوم الساعة" وشحوب الضوء وردهات التوسل والرعب والعويل:

"{الساعة آتية لا ريب فيها}/ تصيغ قواميس نجاتكم/ لترسم الليل على قدر نواياكم/ لتسطو على خزائن القلوب/ وتأجج حرائق القيامة..".

في القصيدة الرشيقة بلغتها، والأنيقة بموسيقاها الداخلية، والمعبرة والموحية في رؤيتها "لا ذنب للمفاتيح في غزو الصدأ" يتسرب نبض الوقت من بين السطور تارة، ويعلن حضوره تارة أخرى، معززاً المعاني الدلالية لفكرة القصيدة المتناغمة مع عنوانها:

"أنت محض إغفاءة/ كلما مسها الشوق/ استيقظت فيها مآسي السنين/ فلا ذنب للمفاتيح في غزو الصدأ/ القلوب رطبة حد الخزلان/ والدم يفقد معنى الدفء إن غادر الأوردة/ هذا ما كتبته الحياة على حواف المغيب/ قد سقطت آخر ذرة في ساعتك الرميلية..".

تقصّي الآخر

يصبو الديوان بعلاقات عشق ساحرة، ويخبو بأخرى حزينة مؤلمة. يدوّن حالات حب ومرح وفرح وحزن ويؤرخ لانكسار وهجر ويأس. إنه تقص للآخر ضمن علاقات تحكمها الطبيعة البشرية عامة وتؤطرها نظمنا الاجتماعية والدينية والأخلاقية خاصة. تكون الشاعرة حيادية تارة ومتنحية تارة أخرى، قريبة من ذاتها تارة وبعيدة عن الآخر تارة أخرى، وفي كل ذلك تمنح لقصائد ديوانها تنوعاً رشيقاً وممتعاً في لغته وجمله الشعرية، ومثيراً للأسئلة في رؤيته ورؤياه: "كأن تحبني/ ثم تحبني/ تتعلّم أن تكون محايداً/ كأن تدس يدك في قعر يدي/ وتترك نفسك للسقوط/ الوقت هو ما يمنح للحب بعداً آخر".

في قصيدة "للنساء لغة لا يفقهها سوى العاشق" غزل شفيف لكنه متعال، المرأة سيدة الموقف بحنكتها وجمالها وسطوة جسدها:

"أغيظ عينيك بلوني/ أزيد شهوتك وأؤجج الرغبة في خلاياك/ لكني أنسحب ضاحكة/ هكذا تقول فنون الغواية/ أنا أعلم أنك أميّ في لغة النساء".

وكما في قصيدة "على نقيضين تتأرجح أفكارك" التي تنتقد فيها الآخر بشدة وتشير إلى نرجسيته وتناقضاته وعدم إدراكه لغموض الوهم ولا كنه الأبعاد:

"فماذا أخبرك الليلة/ وأنت غارق في تأويلات خيالاتك/ صراخ شرقيتكَ/ هدير دمك شكا/ وعلى نقيضين تتأرجح أفكارك/ ونرجسيتكَ تفيض بميل مفرط للنجاة".

تتبدل المواقع والحالات والعلاقة مع الآخر في قصائد الديوان، فالمرأة القوية في قصيدة تتلعثم وترتبك في أخرى، والمرأة المهزومة تكون المنتصرة والمرأة المكسورة تصير النرجسية والمرأة المتيمة تكون المعشوقة، كما في "وكأنك لي الرمز واللغز ولغة الحكايا" القصيدة المفعمة باللهفة والشهوة ، بالتماهي والذوبان:

"الأضواء تخفت وتشع بوتيرة الصراخ/ تقتحم عرينا/ تعكس حقيقة مرايانا/ وكأنك أناي/ وكأني أشبهك/ وكأني الحياة/ وكأنك أناي".

كما ولا يخلو الديوان من غزل شفيف واتشاح بالحرير، من حميمية العلاقة مع الآخر العشيق، ولهفة اللقاء.. وكما تشرب ابتسامته دون تسخين، تشربه على مهل:

"كأن أرتدي قميصك الأزرق/ وأغتال الوقت بلون عينيك/ أسكب جمر قلبي على برد سنينك/ وأوغل في الحنين/ أقبض عليك متلبساً بالشوق/ وأشربك على مهل".

وأيضاً، تواكب الشاعرة التطورات التقنية، وقد تكون العلاقات مع الآخر مغايرة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وغيرها. كما في قصيدة "أكابر في نسيانك ولا أملك مخرجاً".. وقد تكون بين طرفين بعلاقة مع طرف ثالث كما في قصيدة "تصر على منح اسمك لكائن آخر" التي تتابع علاقة حبيبين يواجهان معاً صعوبة الحياة وأسئلة المستقبل.. علاقة زوجين يؤرقهما التفكير بإنجاب كائن ثالث آخر:

"كم مرة يجب أن نسقط لنصحو/ كم مرة يجب أن ننام ونحلم ونفكر بأحلامنا تحققت/ كم مرة يجب أن نسخر من عبثية الحياة/ لنعي أن جهودنا تذهب سدى/ كم مرة بوسعك أن تحب؟".

أمكنة وصور

ثمة قصائد تولي فيها العقباني اهتماماً لافتاً بالمكان، بمشهديته وحركة الناس فيه ورصد تفاصيل أحوالهم.. واهتماماً شاعرياً بالطبيعة وتجلياتها وعلاقة رؤيا القصيدة بها. ففي "يخذلني الجمال كاميرتي إبداعية" منولوج مكثف وحوار ممتع بين ما تشاهده الشاعرة وما تلتقطه كاميرتها المبدعة، بوح ظريف عن علاقة الذات مع مكونات الطبيعة من جهة ومع الآخر غير المحدد من جهة ثانية، صور جمالية ظليلة، بسيطة وموحية بمواربة دافئة تثير أسئلة عميقة ومتهكمة في آن واحد:

 "أقتص من العتمة  فأضيء الخيالات/ أشنق الوقت فيخذلني الجمال/

ما زلت أحمل آثار ولادتي/  ولزوجة الماضي/  دبق الظهيرة في أركانه

 ماذا تغيّر من حاضرك؟/ ما زلت ضفدعاً / تضحك كاميرتي/ أعيد الفلاش

فتسطع الحقيقة أكثر.."

كما وترصد الشاعرة صور الشخوص في الأمكنة، بملامحها المعبرة عن دواخلها كما في قصيدة "أقلام كحل أسود كالقلوب تماماً" وتتابع حركة الناس في الشوارع والزوايا التي تغص بالقهر والتبغ، باعة متجولون وأحذية ممزقة تنطق بالحياة:

"وجه كالح يصفعه البرد/ يصفعه الفقر والوحدة/ تصفعه آثار الوجع بحفر لا تلتئم/ أسنان صفراء/ وسجائر مبللة بالرجاء/ بدموع الليل الحارقة..".

المدينة كمكان يضج بخيبة شوارعه المتداخلة وأرصفته المترامية، وبيوته القديمة النائمة وجدرانها المنحنية، وأجوائها المكفهرة المظلمة.. تشكل أرضية لليأس في قصيدة "التنانير القصيرة علامة على الحداثة" أيضاً،  ولكن ينبت فيها الأمل وتحبل فيها الأزهار بأجنة من نور:

"مع أن السقف يهتز من روماتيزم الرطوبة/ والجدران تعاني شيخوخة منحنية الظهر/ الأرض زلقة والدم حديقة/ الأزهار حبلى بأجنة من نور/ وأنا أمارس عادة التأمل/ فأدخل دورة الشجرة الدموية/ تغريني بقوة لا تقاوم..".

وثمة تسخير للطبيعة في قصيدة "قانون التخفي منفتح على الواقع" يتبدى ضمن استعارات ومجازات توحي به مكوناتها بالأفكار والصور التي تريدها الشاعرة، وتصير ضمن قانون التخفي الذي تشكله بتداعياتها:

كأن تنزع اللقمة من يد الجوع/ وتشنق حبات القمح/ تجهض الأرحام من أجنة الموت/ تدفن الأشجار أوردتها/ تتنكر الطيور لأعشاشها/ وتكسّر النسور بيوضها/ وتبصق دم الأفاعي/ كأن تلين الأسلاك الشائكة/ وتحن على مزق ثيابنا الملوحة للريح".