ابتسم أيها الجنرال.. إعادة تمثيل جريمة تاريخنا

2023.04.07 | 03:52 دمشق

ابتسم أيها الجنرال.. إعادة تمثيل جريمة تاريخنا
+A
حجم الخط
-A

يقول الأكاديمي التركي إبراهيم كالن في مطلع كتاب له: "ليس التاريخ مجرد تسلسل زمني للأحداث ومستقل عنا كما أنه ليس مادة خاماً أو عجينة نسويها كما نرغب وفقا لأهوائنا وتوجهاتنا وخلفياتنا الفكرية المذهبية...".

والحقيقة أن هذا الكلام يفترض به أن يكون قاعدة تحكم أبحاث الباحثين فقط، غير أنها للأسف لطالما جرى تجاوزها دون مبالاة، من قبل مؤسسات وباحثين تابعين لدول وحكام ذوي غايات، فلطالما تم تغيير الحقائق في كتب التاريخ المدرسية، أو جرى تأويلها وعكسها في معظم منابر ومصادر الثقافة بحسب توجهات الحكم والحاكم وبحسب الظروف.

لنفترض أن انقلابا عسكريا وقع بالأمس في دولة عربية ما، إن معرفة ما جرى بالأمس فقط في هذه الدولة العربية، لهو أشبه بالمستحيل، فكيف لو أن عملية الانقلاب هذه جرت قبل عشر سنوات أو مئة عام؟

والجواب المعقول أن المعرفة الأكثر صدقا عن حدث ما ليست بالضرورة مرتبطة بالقرب أو البعد من الحدث، بل مرتبطة بالمصادفات المحضة، كأن يتوفر شاهد شهد حادثة الانقلاب وأراد تبرئة نفسه وإرضاء ضميره برواية أو نشر وقائع الحدث حرفياً كما شهده هو بنفسه، وهذا أمر نادر ولا يتوفر دوما. المصادفة الأخرى هي أن تتوفر وثائق أو دلائل مادية عن الحدث لو افترضنا أن الحدث ينتمي إلى الماضي البعيد، والمصادفة الثالثة أن تتوفر تسجيلات مصورة وثقتها كاميرات مراقبة في القصر الرئاسي أو الملكي جرى تسريبها إلى وسائل الإعلام.

لكن هناك وسيلة أخرى لتدوين التاريخ، تاريخ الحكام، أو على الأقل تدوين مقاطع من فترات حكمهم، وسيلة حديثة لم يعرفها أسلافنا قبل قرن من الزمن، ألا وهي الدراما، وبالأخص الفيلم الروائي وكذلك المسلسل التلفزيوني، حيث يمكن إعادة استحضار شخصية الحاكم ورواية الحدث بقدر كبير من الجاذبية تتوفر للدراما التلفزيونية اليوم.

الصدمة الأولى: قنبلة نفسية

 ليس سهلاً على الإطلاق أن يقذف "ابتسم أيها الجنرال" في وجهك دفعة واحدة نصف قرن من التاريخ، لسنا فقط -نحن السوريين- الوحيدين الذين لم نعتد  مشاهدة كهذه، بل معظم المشاهدين العرب كذلك، لكننا لأننا  أبناء هذا التاريخ وضحاياه معا، فلربما سببت هذه التجربة الأولى من نوعها  صدمة نفسية أصابت بعض المتابعين المسحوبين من تلابيب أرواحهم إلى داخل صندوق الفرجة الغرائبية أقصد شاشة التلفزيون، وقد امتلؤوا بأطعمة الفطور اللذيذة في رمضان شهر الصيام ذي الخصوصية الروحية رغم صعوبته على البعض.

بالنسبة لي لم أستطع متابعة أكثر من حلقتين من المسلسل الذي وصلت شهرته والجدال حوله مبلغها، حتى قبل أن تعرض الحلقة الأولى منه.. لقد كان الأمر بالنسبة لي شبيها بالقيام بعملية جراحية مفصلية، أو صدمة نفسية.. استغرق الأمر يومين آخرين حتى استطعت العودة لمتابعة الحلقات التالية من المسلسل..

قررت المشاهدة بتمعن وهدوء، فما كنا نقرأ عنه ونتخيله ونعاني منه وهجّرنا بسببه لسنوات ودخلنا السجن بسببه ها هو أمامنا في قبضة أيدينا وعلى مرمى عشرات السنتمترات من عيوننا... فماذا نحن فاعلون!؟

ها هو الديكتاتور الذي كوّنا عنه عشرات التصورات يثبت في أدمغتنا بصورة لا تشبه كثيرا تصوراتنا عنه، وها هم معاونوه الذين لا نعرف عنهم شيئا يصولون ويجولون، في مسلسل يخبرنا قصصا وأحداثا نسمع بها لأول مرة كما لو أنها قصص وأحداث تجري في بلد لم نسمع به، توقعنا في العجز والقصور المعرفي على الأقل... فنشكك بما عرفناه ونلوم أنفسنا على تخيلات وتحليلات بعيدة عما يقوله المسلسل.

أين الحقيقة؟

سنبحث عن طريقة تخرجنا من الحيرة من الشعور بالعجز والضيق، نبحث في الحلقات الأولى للمسلسل عن أي معلومة أو حدث أو كلمة أو اسم تشبه ما نعرفه لنتخلص ولو جزئيا من الشعور بالجهل والضيق من هذا الجهل... لنستسلم أخيرا لفكرة أن المسلسل ليس سوى خليط وقائع وشخصيات سبكت معا وفصلت كيلا تشبه من نعرفهم، أو نعتقد أننا نعرفها أسرة الحاكم وطاقمه وحاشيته...

بماذا يشعر الديكتاتور والممثل؟

أهم ما تفعله الدراما أنها تأتي بالشخصية الشهيرة سواء أكانت شخصية فريدة، أم نمطية، إلى بيتك وتعرضها لك من الخارج والداخل، ثم تأتي بالأحداث تضعها أمامك لتبدأ أنت بالالتقاط والفحص، تتقبل أو ترفض تُحبط أو تسعد تضحك أو تشتم.. فما يفترض به أن يكون تاريخ الحكام في بلادنا ها هو يعرض أمامك باختزال لا بد منه كي ينتهي -رفقا بك- في ثلاثين حلقة وإلا سيتحول العمل الدرامي إلى سلسلة درامية مكسيكية لا تنتهي...

سؤال لا بد أنه راود كثيرين بخصوص شخصية الرئيس، كنت أرغب بطرحه عليه أو على أي شخصية تصنع تاريخنا غصبا عنا: "شعورك وأنت تصنع التاريخ كل يوم هل هو شعور ممتع أم سيئ؟"

ثم إن هذا السؤال يمكن أن نسأله لمن تلبّس شخصية الرئيس الفنان القدير مكسيم خليل في دوره الصعب متكلفا عناء العبوس والتجهم طوال حلقات المسلسل، ما هو شعورك وأنت تلبس شخصية الرئيس، الضعيف في أعماقه- كما شاع عنه- محاولا إظهار قوته وتجهمه؟

مشاهدة التاريخ لحظة حدوثه كما لو أنه دراما تلفزيونية:

تخيل أن كل حركة كل كلمة كل "مشوار" حتى لو كان لتناول الشاورما ستدخل التاريخ، بل هي تدخل التاريخ الآن.. أنت بطل أو شخصية تاريخية تتحرك الآن وليس بالأمس. أنت منجم التاريخ ونبعه، كل ما تفعل يصبح تاريخا، أو يسجل في التاريخ.

وعودة إلى تحليل شخصية الرئيس.. فإعجاب المهزوم في أعماقه، ضعيف الشخصية، بنفسه، لن يكون لولا إعجاب الآخرين به. لذلك يصبح المهزوم المهزوز حريصا على الحصول على مزيد من الإعجاب بالذات، بالتخلي عن شخصيته الضعيفة وارتداء شخصية القوي، وممارسة عنف أو الاستعانة بشخص قريب جدا لممارسته، يصبح مطلب الحصول على التقدير مرتبطا بمقدار ممارسة العنف..

إن العنف المفتعل من ضعيف مهزوم مدعي العنف لهو أبلغ وأخطر من عنف من كان بطبعه عنيفا، لذا -وفقا لهذه القاعدة- فإنه لو حكم ماهر القوي سوريا لكان أقل خطرا بكثير من أن يحكمها بشار الضعيف... فهذا الضعيف افتعل كوارث لا مبرر لها فقط ليثبت للقوي أي لأخيه وليثبت للحاشية أنه قوي وأنه يستحق الرئاسة. وما كان القوي ليحتاج أن يرتكب كل تلك الكوارث، فهو لا يحتاج أن يثبت قوته لأحد، ليس مضطرا أصلا، فلا أحد يشكك بقوته ومقدرته على ارتكاب الجرائم.

 الإعجاب بالذات والتقدير العالي لها الذي يصل إلى تأليه الذات لن يكون لولا أن هذا الشخص هو في هذا المكان بعينه : الرئاسة أو الديكتاتورية.

أهم ما في "ابتسم أيها الجنرال" أنه يجعلك تهاب هذا الموقع- الرئاسة- تكرهه بقدر ما تفكر لماذا لم أكن أنا هناك؟ مئات الآلاف ربما يفكرون بذلك، وهذا حق لأي مواطن، وربما يعجبون بشخصية الرئيس كما جسدها الفنان القدير مكسيم خليل..

في الختام لا بد من توجيه شكر للكاتب والشاعر سامر رضوان ولشركة ميتافورا على عملهم الجريء الذي يخط سطرا جديدا في تاريخ الدراما العربية، مع رجاء حار من منتجي مسلسلات رمضان، الرحمة بمشاهديهم، فما يمكن أن يكون ممتعا ومثيرا وصادما من الأعمال الدرامية الجريئة في كل شهور العام، قد يكون مؤذيا في رمضان نفسيا وجسديا..