icon
التغطية الحية

إيكونوميست: غزو بوتين لأوكرانيا يدمر الدولتين معاً

2022.03.08 | 07:17 دمشق

دبابات روسية تغزو أوكرانيا
دبابات روسية تغزو أوكرانيا
إيكونوميست- ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

لمن يمتازون بقوة الذاكرة، فإن موسكو اليوم تشعر بالغرابة ذاتها التي أحست بها خلال محاولة الانقلاب في آب 1991، فلا أحد ينكر أنه لم يكن هنالك وقتها أية دبابة في الشوارع، لأن تلك الدبابات كانت تحتل مناطق أخرى، إلا أن قوات الأمن التابعة لجهاز الأمن الفيدرالي الروسي (FSB)، كانت قد أحكمت قبضتها بشكل مطبق على المدينة، وعلى كامل البلاد، مقارنة بما فعله أسلافهم في لجنة أمن الدولة، أثناء العمليات الأخيرة التي قاموا بها لإنقاذ الاتحاد السوفييتي قبل ثلاثين عاماً خلت، وذلك لأن تلك الجهود وهذه العمليات عجلت من انهياره الأخير.

يبدو اليوم وكأنه لا مجال للمقاومة كما كان عليه الوضع في ذلك الحين، والذي جعل من رئيس الاتحاد الروسي بوريس يلتسن بمثابة بطل لروسيا، ولكن في دولة تتحول بسرعة نحو الشمولية، وتبيح قانوناً يقضي بالحكم بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً على من "ينشر أخباراً كاذبة حول تحركات القوات المسلحة الروسية" ليصدِّق عليه البرلمان بصورة تلقائية، هنالك مجال واسع لإبراز الشجاعة. فقد وقّع أكثر من مليون شخص على عريضة مناهضة للحرب على أوكرانيا، وفي 24 من شباط، وتحديداً في سانت بطرسبرغ، أي مسقط رأس الرئيس فلاديمير بوتين، اعتقلت الشرطة لودميلا فاسيلييفا، وهي إحدى من نجو من حصار للمدينة امتد 872 يوماً خلال الحرب العالمية الثانية، وذلك لتظاهرها ضد الغزو الروسي لأوكرانيا، فكانت من بين سبعة آلاف معتقل آخرين تم إلقاء القبض عليهم في ذلك اليوم، حيث وثق مقطع فيديو نشر على تويتر كيف اقتادها شرطيان لمكان اعتقالها، فتحولت بذلك إلى أيقونة ورمز للتحدي والصمود.

كتب زعيم المعارضة الروسية، أليكسي نافالني، من سجنه في بيان له نشره محاميه على إنستغرام: "إن كان هنالك شيء يدعو للفخر في روسيا حالياً، فهم هؤلاء الناس الذين جرى اعتقالهم، لنكن شعباً لا يسكت ولا يخاف على الأقل، وإلا سنصبح مجرد جبناء يتظاهرون بعدم ملاحظتهم للحرب العدوانية ضد أوكرانيا التي شنها القيصر الذي فقد صوابه كما هو واضح".

 

 

كأن شيئاً لم يكن

لا شك أن هنالك نسبة معينة من تلك الادعاءات والمظاهر، بالرغم من حالة الصدمة السائدة في أغلب الأحيان، إذ يقول أحد من يعملون في المصارف: "أكاد أجن، فقد شاركت في اتصالات لاجتماعات رأيت فيها أشخاصاً يتحدثون عن خطط مالية ويناقشون تقارير تحليلية حول نتائج الشركات، وكأن شيئاً لم يحدث".

غالبية الروس ليست لديهم أدنى فكرة عن مضي بلادهم للحرب إلا قبل بدايتها مباشرة، ولعل أحد أسباب ذلك أن الفكرة بحد ذاتها تبدو غبية، أما السبب الآخر فيعود للكذب الذي مورس على الشعب الروسي، إذ بقي مسؤولو الكرملين طوال أشهر يؤكدون بأن ما يقوم به الجنود على الحدود الأوكرانية مجرد تدريب وحسب، أما المخططات من أجل "عملية عسكرية خاصة" كما وصف بوتين حربه، فقد بقيت سراً حتى عن الجيش نفسه (وذلك لأن العملية الخاصة هي مصطلح يستخدم لدى لجنة أمن الدولة وليس من قبل الجيش)، لذا كان المفترض أن تنتهي تلك العملية قبل أن ينتبه أحد لحدوثها.

أسباب متضاربة

إلا أن ذلك لم يحدث، إذ اختار الجنرالات الروس البدء بالعدوان عبر سلسلة من الغارات الغريبة والتي لم تتمخض عن شيء مهم، ففشلوا في المهمة الأساسية المتمثلة في سحق الدفاعات الجوية للعدو. وبالرغم من أن القوات الروسية كانت سريعة في تقدمها عبر القرم في الجنوب، إلا أن تقدمها باتجاه كييف وغيرها من المدن الواقعة في الشرق أتى أبطأ مما هو متوقع.

وقد يعود أحد أسباب ذلك إلى الرغبة في تقليص عدد الضحايا بين صفوف المدنيين، ولعل الغزاة خففوا من الاستعانة بالمدفعية، وهذا ما أدهش الجميع، بما أن تلك القوات تمثل عصب القوات البرية القيصرية والسوفييتية والروسية على التوالي، وذلك لصعوبة استخدام تلك القوة النارية بشكل عشوائي عند استهداف المناطق المأهولة. وقد يفسر الدافع نفسه سبب الاستخدام الروسي المحدود للقوة الجوية، بالرغم من أن صمود بعض الدفاعات الجوية الأوكرانية قد يكون سبباً لذلك.

إلا أن الروس لم يكونوا على استعداد كبير لمجابهة كل هذه المقاومة التي تعرضوا لها، فالصواريخ المضادة للدبابات التي أرسلت بالآلاف لأوكرانيا خلال الأشهر الماضية أبلت بلاء حسناً، بحسب ما ذكره مسؤول أوروبي في مجال الدفاع. ثم إن عدم وجود تفوق جوي سمح للطائرات المسيرة تركية الصنع التي تمتلكها أوكرانيا بالوصول إلى أهدافها.

"جيش بوتيمكين" الاستعراضي

إن حقيقة قيام الحرب على أرض أوكرانية، وإثبات الأوكرانيين لبراعتهم بإيصال رسالتهم للعالم، يعني تشويه صورة الدخلاء بشكل أو بآخر، إذ يقوم البعض من الناس برفع الصور التي تظهر فيها دبابات أوكرانية محترقة على الشابكة، ولكن أداء روسيا في بداية الحرب كان "أسوأ من أدائها في جورجيا عام 2008" بحسب ما ذكره كونراد موزيكا وهو محلل مختص بشؤون الدفاع في 27 من شباط الماضي.

فالحرب الجورجية التي كان أداء القوات الروسية فيها ضعيفاً أدت إلى قيام إصلاحات شاملة واسعة ضمن ذلك الجيش، إلا أن تلك الإصلاحات لم تكن كافية على ما يبدو، فقد أنفق بوتين الكثير من الأموال والتقانة على قواته المسلحة طوال عقد من الزمان، ولكن وكما يصف أحد المسؤولين العسكريين الغربيين، فإن بوتين لم يفعل ذلك إلا ليستعرض "جيش بوتيمكين" الموجود لديه (وبوتيمكين هذا جندي ورجل دولة اشتهر بإقامته لقرى مؤقتة من أجل جولة الإمبراطورة في شبه جزيرة القرم عام 1787)، وذلك لأن تكتيكات ذلك الجيش كادت أن تتحول إلى انتحارية في بعض الحالات، حيث يظهر مقطع فيديو ورد بأنه صور في بوتشا الواقعة شمال غربي كييف، مركبة مصفحة روسية تستخدم مكبرات الصوت لتطلب من المدنيين المحافظة على الهدوء، في الوقت الذي يقترب منها رجل يحمل قنبلة يدوية فيفجرها بكل هدوء!

إن هذه الفعالية التي لا تعبأ بأي شيء تقريباً تمثل العنصر الذي حول المقاومة الأوكرانية إلى مقاومة ملهمة، فقد كتب الروائي الأوكراني أندري كوركوف رواية: "مصفوفة الفوضى الديمقراطية"، حيث ظهرت تلك الرواية في أوكرانيا عقب تخلصها من النظام الإقطاعي ورفضها للملكية، ثم جمعها ما بين الفردانية والقضية المشتركة بطريقة استطاعت كل منهما من خلالها تعزيز دور الأخرى بدلاً من أن تناقضها، وهكذا بات من السهل على الشعب الأوكراني رؤية الدبابات الروسية منذ أن بلغت الحدود.

الثقة بالغرباء

يثق الأوكرانيون بالغرباء اليوم كما لم يسبق لهم أن وثقوا بهم من قبل، إذ ثمة جيوش من المتطوعين المدنيين تعمل عل نقل معدات عسكرية من أجزاء أوروبية أخرى، في حين يساعد آخرون في تنظيم عمليات الإخلاء لمن يحاولون الرحيل عن البلاد. كما نشرت وزارة الدفاع الأوكرانية تغريدات تعلم فيها المواطنين عن أكثر أجزاء معرَّضة للتلف بفعل قنابل المولوتوف داخل الدبابات. في حين يخاطر أناس عاديون بأرواحهم عبر وقوفهم أمام العربات المصفحة الروسية. إن مواجهة الجنود الروس، ومعظمهم من المجندين الذين لم يستوعبوا بعد بأنهم يخوضون حرباً حقيقية، بكل هذا القدر من التضامن كانت له نتائج واضحة، إذ يظهر مقطع فيديو عودة رتل دبابات روسية واحد على الأقل القهقرى بسرعة عقب تعرضه لمواجهة من قبل مدنيين عزل.

حرب تدار على وسائل التواصل الاجتماعي

وسط كل ذلك يظهر فولوديمير زيلينسكي، رئيس البلاد الذي لم يتوقع له أحد أن يصل لهذا المنصب، بعد أن أمضى شهوراً وهو يقلل من احتمال وقوع الحرب، وقد تحول بسرعة مذهلة من دخيل على السياسة لا حيلة بيده إلى بطل حرب وأيقونة للياقة والتهذيب على المستوى العالمي، فجاذبيته وخبرته السابقة في مجال التمثيل جعلته مناسباً لخوض حرب تدار عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

في الوقت الذي يجادل فيه بوتين مرؤوسيه في قاعات مطلية بالذهب، يقوم زيلينسكي بنشر مقاطع بطريقة سيلفي برفقة فريقه يشرح فيها ما يفكره الناس حول ما يقوم هو وفريقه به خلال الحرب، ويحث أبناء شعبه على التحلي بالقوة، فهو يرغب بالاستفادة من النوايا الحسنة على المستوى الدولي من خلال الفيلق الدولي الذي يعتمد على دمج قوات أجنبية ضمن القوات الأوكرانية، بعدما وصلت طلبات انضمام كثيرة لسفارات أوكرانيا في مختلف بقاع العالم.

ومن المرجح لتلك القوات الجديدة أن تكتشف تحول الوضع إلى مستوى أقسى وأصعب، وذلك لأن التكتيكات الروسية تتغير، فقد عادت المدفعية لتلعب دورها المعتاد بوصفها عماد الجيش الروسي. إذ في 28 من شباط، تعرضت مدينة خاركيف لقصف بالقذائف والصواريخ والذخائر العنقودية التي تخلف قنابل صغيرة ضمن مساحة كبيرة، فكبدت الأوكرانيين الكثير من الخسائر الفادحة بين صفوف المدنيين.

الحصار قادم

كانت خيرسون الواقعة على البحر الأسود أول مدينة كبرى تسقط بيد الروس، وفي اليوم الذي سقطت فيه، أي في الثاني من آذار، أعلن رئيس بلدية ماريوبول الواقعة على بحر آزوف بأن مدينته تعرضت للقصف بالقذائف والصواريخ والغارات الجوية، حيث أوشكت روسيا على الانتهاء من تشكيل جسر بري يربط منطقة الدونباس بنهر دنيبير على الشريط الساحلي للبحر الأسود. ويبدو بأن التوغل شمالاً نحو قلب البلاد، باتجاه مدينة دنيبرو، سيعزل القوات الأوكرانية ويحصرها في الشرق، حيث تبدو كييف أشبه بمدينة مطوقة، أي أنها محاصرة على الأرجح، فالوقود على وشك النفاد بحسب ما ذكره رئيس شركة النفط في هذه المدينة، أما النقص في المواد الغذائية فهو قادم لا محالة.

ثمة مخاوف منتشرة حول إمكانية تعرض كييف لمصير شبيه بمصير غروزني، عاصمة الشيشان، التي تعرض معظمها للتدمير عقب القصف المدفعي الذي أمر بشنه الرئيس يلتسن في عام 1994، وخلف 20 ألف قتيل بين صفوف المدنيين، إلا أنه لابد لهذه الذكرى أن ترعب الروس أيضاً، إذ حتى بعد القصف الذي حول خرائب تلك المدينة إلى ركام، أصبح على القوات البرية أن تحارب للسيطرة على تلك المدينة حتى تحقق النصر، ثم إن كييف أكبر بكثير من غروزني، وتضاريسها تساعد الأوكرانيين على الدفاع عنها بشكل جيد، بحسب ما ذكره أنطوني كينغ، مؤلف: (حرب المدن في القرن الحادي والعشرين)، أي أنها مدينة كبيرة كثيفة السكان يتخللها نهر، وتمر بها الكثير من الشوارع وخطوط السكك الحديد، كما تشتمل على شبكة مترو واسعة، وشبكة صرف صحي، ما يعني أنه بوسع المدافعين الاستعانة بها جميعاً.

روسيا تنهار اقتصادياً

إن مراقبة الحصار الطويل والدموي لمدينة كييف قد يثير غضب الرأي العام في أجزاء مختلفة من العالم، كما يمكن أن يؤدي إلى فرض عقوبات أقسى على روسيا، بالرغم من أن الإجراءات التي دخلت حيز التنفيذ في 28 من شباط الماضي كانت آثارها واضحة، فقد تم سحب أموال بالروبل بلغت قيمتها 15 مليار دولار من المصارف، ما زاد كمية النقد المتداول بنسبة 10%، أما تأثيرها الكامل فلن يلاحظ قبل مرور أسبوعين إلى ثلاثة أسابيع بحسب ما ذكره أحد الخبراء الاقتصاديين المرموقين، وذلك عندما تنخفض كميات المواد المخزنة من السلع الاستهلاكية، مع عدم وصول توريدات جديدة، وبذلك ستصبح عملية صرف كل تلك الكمية من الروبلات أصعب بكثير، إذ إن كل ما تتفوه به روسيا حول "الاقتصاد المحصن" منذ أن انخفضت حصة الاستهلاك في المواد غير الغذائية في عام 2014  وذلك بنسبة أربع نقاط، أي من 44% إلى 40%  بما أنها أصبحت تصرف على السلع المستوردة.

بدأت بعض الجهات المستوردة في روسيا بتسريح موظفيها بالفعل، وسيلحق بها الكثير غيرها، كما ستفعل المطاعم عندما سينفد لديها السمك واللحم المستورد. فروسيا، كما يرى أحد الخبراء الاقتصاديين، تنزلق عائدة إلى الحقبة ما بعد السوفييتية التي سادت خلال تسعينيات القرن الماضي، أي تلك الفترة المرعبة التي ذكر بوتين بأنها فرضت على روسيا من قبل الغرب، قبل أن يقوم هو بتحريرها. ولذلك قد تتراوح نسبة التضخم ما بين 40% إلى 80% هذا في حال تم تجميد الواردات، ويبدو أن الطبقة الوسطى ستطحن خلال ذلك، وفي هذه الأثناء، يتم تكميم الأفواه لدى الإعلام الروسي الحر، ففي الثالث من آذار، تم إغلاق محطة إيكو موسكيف الإذاعية الحرة التي بدأت بثها منذ عام 1991.

صاحبة الكلب

يصف كيريل روغوف وهو محلل سياسي معارض لبوتين ما يحدث في أوكرانيا بأنه مأساة، أما ما يحدث في روسيا حسب وصفه فهو مصيبة، وذلك لأن غالبية الشعب لا يريد أن يبقى ليشارك في ذلك، إذ عند قيامه بزيارة لعيادة طبيب بيطري في الثاني من آذار، اكتشف هذا المحلل وجود رتل طويل من الناس الذين اصطفوا هناك حتى يتمكنوا من أخذ حيواناتهم الأليفة معهم في حال هروبهم من البلاد، والبعض منهم حمل معه حقائبه، في استعداد للتوجه نحو أقرب محطة أو مطار للحاق بقطار أو بطائرة فور مغادرته للعيادة، وهناك سألت سيدة في أواسط العمر تحمل معها كلباً شابة تغادر روسيا للمرة الأولى فقالت لها: "ماذا لو أغلقت تركيا الحدود؟ كيف لنا أن نعود عندئذ؟" فردت عليها الشابة بالقول: "لا أخطط للعودة مطلقاً"

  المصدر: إيكونوميست