إعادة الاعتبار للتفسير الثقافي للراديكالية: ماكرون نموذجاً

2020.11.01 | 23:14 دمشق

makrwn.jpg
+A
حجم الخط
-A

"الإسلام يعيش أزمة"، تعميم تسطيحي جديد أطلقه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع الشهر الماضي كشعار لمواجهة ما سماه "الانغرالية الإسلامية" والتي، بحسب وصفه، تهدد العلمانية الفرنسية وقيم الجمهورية. لا يعد هذا التصريح الفج جديداً في قاموس ماكرون السياسي، فقد سبق له استخدام مصطلح "الإرهاب الإسلامي" في مزاوجة شعبوية غير مألوفة في الخطاب السياسي المتزن ما بين الإسلام كدين والإرهاب كفعل متعدد الأشكال والدوافع.

تسلسل هذا التصريحات والإصرار على تكرارها بهذه الطلاقة ساهم في زيادة الاستقطاب الداخلي ضمن فرنسا وأعطى زخماً إضافياً لموجةٍ شعبويةٍ اجتاحت العالم في السنوات الأربع الأخيرة وأدت إلى تراجع ديمقراطي عالمي "Deterioration of Democracy" إلى درجة ظهرت فيها أصواتٌ تحذر من نهاية حقبةِ الديمقراطية الليبرالية "The end of liberal democracy". ثم جاءت مسألة الرسوم وجريمة قتل الأستاذ الفرنسي المدانة لتصب زيتاً إضافياً على نارٍ متأججة جذورها ضاربة في ثنائية "نحن" و "هم" التي تجتاح العديد من المجتمعات بكل حمولاتها الدينية الاستفزازية.

 

لطالما كان التفسير الثقافوي للرديكالية والعنف حاضراً، بل يمكن القول بأن هذا التفسير الذي يعطي للمصادر والنصوص الدينية الإسلامية أهمية معتبرة في تحفيز التطرف يعد من أقدم المداخل المعرفية لفهم هذه الظاهرة المعقدة. فتحت غطائه سادت مقولاتٌ كبرى مثلُ " الاستثناء الديمقراطي إسلامياً" و"صراع الحضارات" و" الراديكالية الإسلاموية". كما خرجت من رحمه نظرياتٌ وافتراضاتٌ لكيفية التعامل مع حركاتِ الإسلام السياسي أو دفعها للاعتدال والاندماج السياسي والتعامل مع هذا الواقع القائم.

الإقصاء لا الدمج

تعد نظرية الاعتدال عبر الإقصاء " Moderation through Exclusion" التي ترفض دمج الإسلاميين في العملية السياسية وتصر على نبذهم وقمعهم آخر صيحات هذا التفسير الثقافوي حتى وإن حاول بعض أنصارها الجدد إلباسها لبوساً معرفياً يركز على العوامل الاجتماعية والسياسية. فعلى سبيل المثال، يرفض هؤلاء ما تطرحه نظرية الدمج والاعتدال " Moderation through inclusion " عن أن تحفيز الإسلاميين على المشاركة السياسية والحكم سيدفعهم لإعادة طرح برامجهم وأفكارهم للتغيير المجتمعي بطريقة سلمية وتدريجية على غرار ما جرى مع الأحزاب المسيحية والشيوعية في الغرب خلال القرن الماضي. فالمقارنة برأيهم ممنوعة لأن الإسلام على خلاف المسيحية يفتقد إلى بنى سلطة مركزية من شأنها أن تسمحَ للإسلاميين بتبني الاعتدال ونبذ الراديكالية. أضف الى ذلك، يحاججون بمقولة "العالم الأخروي" لإثبات خطأ المقارنة بين الإسلاميين وغيرهم ذلك أن الأحزاب الإسلامية تنشط سياسياً من أجل كلا الأمرين "الدنيا والآخرة" والذي لا يناسب أدوات الحكم في الدولة الحديثة.

بغض النظر عن استعراض النظريات والمقولات السابقة، فإن نقدها الجذري والاستهزاء بقدرتها التفسيرية هو الاتجاه السائد اليوم في الأكاديمية الغربية ذاتها. فالمعرفة المنتجة حالياً تتجاوز الإسلامَ كدين وتركز على الحركات الإسلامية بوصفها حركاتٍ سياسيةً أو حركات اجتماعية تتأثر بالبيئة السياسية الخارجية وتتفاعل

كان للباحث والمستعرب جيل كبييل الدور الأكبر في ترسيخ التفسير الثقافوي للإسلاموية ضمن الأكاديمية والنخبة السياسية الفرنسية منذ الثمانينيات

مع طبيعتها القمعية أو المنفتحة وتصنع برامجها وأفكارها وتؤطر أيديولوجيتها في إطار سعيها لتوسيع قاعدتها الاجتماعية والبحث عن الموارد خارج الحتميات النصية. الأمر الذي يقدم لنا نماذج مختلفة في الأدوات والفكر يتجاوز الميل التبسيطي لوضع الحركات الإسلامية جميعها في سلة واحدة أو عدم التفريق ما بين الغنوشي والبغدادي على مستوى الفكر والممارسة كما يحلو لبعض الساسة والكتاب الفرنسيين هذه الأيام.

جيل كبييل مجدداً

بالعودة إلى فرنسا، فقد كان للباحث والمستعرب "جيل كبييل" الدورُ الأكبر في ترسيخ التفسير الثقافوي للإسلاموية ضمن الأكاديمية والنخبة السياسية الفرنسية منذ الثمانينيات بالاعتماد على مقولات تعميمة كبرى مثل "انعدام الثقة في الدين الإسلامي" أو ضرورة "هيكلة الإسلام" لمواجهة الوحش الذي يتغلغل عبر مؤسسات الدولة نتيجة تسامحها معه وينازعها قيمها الرئيسية وخاصة العلمانية.

مع ذلك، فقد برز في التسعينيات والعقد الأول من القرن العشرين مفكرون وباحثون فرنسيون وفرانكونيون مثل "فرانسوا بورغا" صاحب "فهم الإسلام السياسي" وستيفان لاكروا وتوماس بيريه وغيرهم ممن تصدوا للتوجه السابق وأنتجوا من خلال أدوات ومناهج رصينة معرفةً جديدةً ومداخل نظرية مختلفة عن كيفية فهم الظاهرة الإسلامية سياسياً وتمظهراتها الحركية. وقد فرضت هذه المساهمات التي بنيت بالأساس على نقد فكر كبييل نفسها ضمن الأكاديمية الفرنسية ووجدت أيضاً صدى إيجابياً كبيراً ضمن الفضاء الفكري الانكلوسكوني الذي غالباً ما يميل إلى تبخيس النتاج الأكاديمي الفرنسي بسبب تقليديته وجموده.

لكونه جاء من خارج النخبة التقليدية الفرنسية، علق بعض الباحثين آمالاً على إيمانويل ماكرون لتبني المقاربات الفرنسية الجديدة فيما يتعلق بتفسير وفهم الميل للراديكالية عند بعض الشباب الفرنسي المسلم وكذلك استراتيجيات مكافحة الإرهاب خارجياً. لكن هذه الآمال سرعان ما تبددت مع تبني ماكرن لأفكار كبييل والعمل على تطبيقها بحذافيرها إلى حد صُعب فيه تمييز خطابه وممارساته عن اليمين المتطرف الفرنسي. لم يكن الحال خارجياً أفضلَ، فالرئيس الفرنسي احتضن تحت شعار الواقعية الديكتاتوريين العرب وأعادهم إلى الساحة الدولية كشركاء لكبح جماح التغيير في العالم العربي والإسلامي والذي قد ينتهي بالحركات الإسلامية، وفقاً لتقديراته، إلى الحكم. في ضوء ذلك، لم يتردد ماكرون في تغيير المقاربة الفرنسية للأزمة السورية معتبراً أنَّ "بشار الأسد ليس عدواً لفرنسا بل عدو للشعب السوري" وكأنه من المقبول فرنسياً قبول ديكتاتور يعادي شعبه.

خارج لغة المصالح والبراغماتية السياسية التي ميزته، استحضر ماكرون في حديثه مع قناة الجزيرة كثيراً مفردات التنوير، الديمقراطية، وحرية التعبير باعتبارها قيماً للجمهورية الفرنسية يدافع عنها. لكن المتابع لسياساته الداخلية والخارجية يدرك جلياً الغياب التام لهذه القيم التي صارت إرثاً حضارياً للعالم كله. فالتنوير يفرض قبل كل شيء آخر الاعتماد على المعرفة وتحديثاتها لا العودة إلى مقاربات تقليدية أثبت الفكر قصورها والتجارب تداعياتها السلبية. وعليه، لا تكمن الأزمة التي يطرحها ماكرون لا في الإسلام ولا في العلمانية ولا في قيم الجمهورية الفرنسية بل في مسعاه لإيجاد تأويلات فكرية لأزمته هو وتجربته في الحكم.

لقد قدمت الثورة الفرنسية وفكر التنوير الكثير للبشرية خاصة فيما يتعلق بإعلاء البعد القيمي وحقوق الإنسان في الممارسة السياسية الدولتية، وسيظل العالم الحر مديناً لها بكثير من الفضائل. وعليه، فإنَّ استحضارها في تبرير النزوع نحوَ سياسات شعبوية داخلية يفرض على الجميع النقد، فهذه القيم، كما سبق ذكره، أضحت قيماً للعالمية جمعاء ولا تفسر وتؤل داخلياً حسب النخبة الحاكمة الفرنسية.