إسرائيل في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية

2024.01.14 | 05:50 دمشق

إسرائيل في قفص الاتهام أمام العدالة الدولية
+A
حجم الخط
-A

شكّل يوم الخميس (11 يناير/ كانون الثاني 2024) علامة فارقة في تاريخ القضية الفلسطينية، بل وحدثاً تاريخياً، إذ لأول مرة في تاريخها، توضع إسرائيل في قفص الاتهام أمام محكمة العدل الدولية، بناء على الدعوى التي تقدمت بها جمهورية جنوب إفريقيا في 29 ديسمبر/ كانون أول 2023، واتهمت فيها إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية في حربها المتواصلة على الفلسطينيين في قطاع غزة، بالاستناد إلى أدلة قصدية وعينية، وبما يتسق مع ما تعاقب عليه اتفاقية جنيف الخاصة بالإبادة الجماعية عام 1948، التي تعرفها بأنها "الأفعال المرتكبة على قصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية"، وبالتالي تعري الدعوة الصورة التي عملت على ترويجها وتسويقها إسرائيل، وتحاول فيها الظهور بمظهر الضحية، التي تدافع عن نفسها أمام من يريد محوها من الخريطة، ورميها في البحر المتوسط، مستندة في ذلك إلى جعجعات فارغة كان يطلقها مسؤولون في أنظمة الممانعة والمقاومة، ومن بينهم مسؤولون في نظام الملالي الإيراني، فيما عملت هذه الأنظمة، في حقيقة الأمر، على محو شعوبها، وقتلت وهجّرت الملايين منهم، فيما دفعت عشرات آلاف الهاربين من جحيمها إلى ركوب أمواج الأبيض المتوسط، التي ابتعلت العديد منهم.

من المهم جداً أن تقوم العدالة الدولية بمساءلة دولة الاحتلال عن جرائمها، وأن يتم تسليط أضواء كاميرات وسائل الإعلام عليها

يستحيل على أصحاب الضمير الإنساني الحي في العالم تقبل ما تقوم به إسرائيل من إبادة جماعية وتطهير عرقي وتهجير قسري أمام مرأى الجميع، وبدعم من ساسة الولايات المتحدة ومعظم الدول الأوروبية، وما جاء في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا موثق ومروّع ويمتلك مصداقية، وحددّ الجرائم التي ترتكبها إسرائيل عبر اتخاذها الفعلي سلسلة "إجراءات منهجية ودقيقة للقضاء على سكان غزة وتجويعهم والتنكيل بهم وتهجيرهم، وتنفذ سياسة محو خيارات العيش، مما يؤدي إلى قتل ممنهج لقطاعات كبيرة من السكان، وكبار الأكاديميين والكتاب والأطباء، الطاقم الطبي والصحفيين والمواطنين العاديين".

لعلّ من المهم جداً أن تقوم العدالة الدولية بمساءلة دولة الاحتلال عن جرائمها، وأن يتم تسليط أضواء كاميرات وسائل الإعلام عليها، وتفنيد الرواية الخادعة التي تحاول إسرائيل تسويقها للحرب الإجرامية، التي تشنها على قطاع غزة منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وبما يجردها من أي أساس قانوني دولي، لتصبح عارية أمام مرافعات محكمة العدل الدولية، بوصفها أعلى هيئة قضائية في الأمم المتحدة، التي تلزم أحكامها جميع الدول الموقّعة على اتفاقية جنيف. والمفارقة هي أن إسرائيل واحدة من هذه الدول، لكن المؤسف هو أن المحكمة لا تملك أي وسيلة أو آلية لتطبيق أحكامها.

يثبت مثول إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية أنه لا يمكن التستر طويلاً على جرائمها، مهما حاول ساستها وأجهزتها الدعائية، فقد باتت مكشوفة ومفضوحة حتى في داخل إسرائيل نفسها، حيث دعم عضو الكنيست الإسرائيلي، عوفر كاسيف، الدعوى التي رفعتها حكومة جنوب إفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد حكومة اليمين العنصري المتطرف بقيادة بنيامين نتنياهو، واعتبر أن الاحتلال جريمة، وهو يقوم بقتل الشعبين الفلسطيني والإسرائيليين.

يبدو أن ساسة إسرائيل، وشركاء حربهم في الولايات المتحدة وسواها، الذين درجوا على ازدراء كل المنظمّات الدولية، واعتبروا دولة الاحتلال الصهيوني فوق القانون الدولي، وفي مأمن من أي مساءلة دولية، أدركوا هذه المرة أن كمية الشتائم التي كالوها للمحكمة لن تنفعهم، بالنظر إلى خطورة ما ستسفر عنه مداولاتها، لذلك قرروا الانصياع والإيعاز إلى حكومة الحرب الإسرائيلية بالالتزام والمثول أمام المحكمة، وتسمية القاضي السابق، أهارون باراك، ممثلاً لها أمام المحكمة، ولم تفوتهم محاولة استدرار التعاطف العالمي، من خلال تقديمه في صورة الناجي من المحرقة، باعتباره هرب وهو طفل من ملاحقة النازية، وذلك من أجل الادعاء بأن الناجين من الإبادة النازية لا يمكن اتهامهم بالإبادة الجماعية، لكن دولة الاحتلال لم تذكر أن القاضي الذي سيدافع عنها لا يتوان عن استخدام قدراته وخبرته وسمعته، وحتى تاريخه الشخصي، من أجل الدفاع عن جرائم الصهاينة وتعطيل العدالة. وقد سبق أن تراجعت دولة الاحتلال عن تكليف القاضي الأميركي الشهير، آلان ديرشوفيتز، الذي ارتبط اسمه بقضية اغتصاب أطفال في الولايات المتحدة، فضلاً عن صيته الذائع، بوصفه محامياً للقتلة والمجرمين، وتجار الجنس، الأمر الذي يشي بمدى الإرباك الذي وقعت فيه إسرائيل، على الرغم من أنها اعتادت على عدم المساءلة أو المحاسبة على انتهاكاتها الصارخة بحق الشعب الفلسطيني، وعلى تجنيد مؤسساتها وأجهزة دعايتها للترويح لجملة من الأكاذيب والافتراءات، بغية إبعاد أي شبهة جنائية ضدها، وساندتها بكل الوسائل التي تملكها العديد من الإدارات الأميركية التي تعاقبت على البيت الأبيض.

تتمتع حكومة جنوب إفريقيا بسمعة دولية رفيعة، وتحظى بالاحترام الدولي، ولديها خبرة متراكمة في قضايا العدالة

تكتسي الدعوى التي تقدمت بها جنوب إفريقيا أهميتها بالنظر أنها رفعت من طرف جنوب إفريقيا، التي عانى شعبها طويلاً من نظام فصل عنصري شبيه بالنظام الذي تنتجه إسرائيل ضد الفلسطينيين. وتتمتع حكومة جنوب إفريقيا بسمعة دولية رفيعة، وتحظى بالاحترام الدولي، ولديها خبرة متراكمة في قضايا العدالة، وبما مكنها من القيام بمهمة قانونية مُتقنة، مدعومة بالأدلة والوقائع الجرمية، المثبتة بمقاطع مصوّرة وبتصريحات أطلقها ساسة وجنرالات إسرائيل، ودعوا فيها إلى إبادة وسحق وتهجير الفلسطينيين. كما تكتسي الدعوة أهميتها من خلال مطالبة جنوب إفريقيا المحكمة باستخدام صلاحيتها، التي لا تتطلب إجراء مناقشات ومصادقات في الأمم المتحدة، بإصدار قرار فوري ملزم، يقع ضمن صلاحياتها الحصرية، ويقضي بوقف إطلاق نار فوري. وهو مطلب يكتسي أهمية قصوى إذا أقرته المحكمة، كونه يأتي بعد فشل مجلس الأمن، في أكثر من مرة، في إصدار قرار بوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، وبعد أن أدارت إسرائيل ظهرها لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة المطالب بوقف إطلاق النار، كي تواصل حربها التي شنتها على الفلسطينيين منذ أكثر من ثلاثة أشهر.