إدلـب .. المدنيـون أقـوى من السـلاح

2018.10.01 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

لا أعلم كم عدد الكمائن التي نصبتها روسيا وإيران في اتفاق إدلب الأخير، ولكن ما لا يغادر يقيني بأن تلك الأطراف الدولية لن يتركوا أداة أو وسيلة سياسية أو عسكرية أو أمنية لقتل السوريين تحت أي ادعاء كان، ولكن ما تحظى به مدن وبلدات الشمال السوري من مقومات محلية ودولية، أعادت ربيع الثورة السورية مجدداً إلى عهدها الأول، حتى أصبح المدني الأعزل المهجر المتعب من حرب السنوات الماضية أقوى من التشكيلات العسكرية المتشرذمة، ليخرج بصوته إلى الساحات رافضاً الهزيمة وثابتاً على موقفه الذي لأجله في البدايات.

لا يمكننا القول بطبيعة الحال بأن أهالي إدلب ومن هُجر إليها، هم السبب الأول والأخير لعقد اتفاق سوتشي الأخير بين الرئيسين التركي والروسي حول الشمال السوري، وإنما شكلت تلك الجموع الغفيرة، ورقة قوة حقيقية استفاد منها الحليف التركي في المعركة السياسية للحصول على الهدف المشترك بمنع الكارثة في الوقت الراهن على أقل تقدير، في حين تحاول أنقرة بعد تلك الاتفاقية اكتساب تأييد دولي مؤثر مساند لها ضد الهيمنة الاحتلالية الروسية الكاملة على الأراضي السورية.

قد يرى بعضكم بأن المظاهرات التي تخرج الجمعة تلو الجمعة، لا تأثير دولي لها، وبعضكم ذهب إلى انتقادها، مندفعاً في تعليله لذلك بأن السلاح وحده من يحسم جولات القتال، ولكنني هنا لا أتوافق مع تلك الآراء، فالمظاهرات الأسبوعية شكلت عاملاً جامعاً لأصوات السوريين المدنيين، وهذا الحدث عجزت عن تطبيقه التشكيلات العسكرية التي لم تنجح في تجاوز العقبات التحزبية طيلة السنوات الماضية، وبقيت أسيرة مشاريعها الخاصة وما تزال.

عودة السوريين للاعتماد على سلاحهم الأول "الحناجر"، حتى باتت هذه الأصوات هي من تحمي التشكيلات العسكرية المتبعثرة في الأهداف والغايات، وهذا ما تؤكده مظاهرات الشمال السوري، إذ أصبحت الفصائل تحتمي بالمدنيين، لا العكس، على خلاف ما كان سائداً طيلة الأعوام الفائتة، ولو قدر للسوريين أجواء مماثلة في جنوب البلاد ووسطها، لما خسرت ثورتنا مهدها وعاصمتها، ولكن المواقف العربية الهزيلة الضعيفة وارتماء التشكيلات العسكرية في أحضان استخبارات تلك الدول، كان السبب الرئيسي في فقدان الثورة السورية لأهم مواقعها على التوالي.

 

السوريون عادوا لاستخدام سلاح الحناجر، وأصواتهم تحمي العسكر المتبعثر

إذا ما عدنا للوراء، ووقفنا عند بعض الأحداث المصيرية، فسنجد بكل سهولة بأن الفصائل المتناحرة والمتباينة فيما بينها، هي من أوصلت الثورة في البلاد إلى هذا الحاضر المأساوي، فتلك التحزبات العسكرية، جعلت أسمى أهدافها الحفاظ على كيانها، وتقوقعت مشاريعها إلى الدرك الأسفل من الوطنية، فكانت النتيجة باهظة الثمن، فتلك الفصائل حملت سلاحها الفردي وخرجت نحو مناطق أخرى، وتركت السوريين في مدنهم تحت رحمة الأسد القاتل، وأجبرتهم على التسويات والمصالحات المزيفة بشكل قسري، لتدفع الثورة الثمن الباهظ، ولولا القيادات التي حبست مشروعها وأسلحتها تحت راية "الأنا"، لما سقطت أي من تلك المدن بهذه الطريقة المذلة.

في الحقيقة، ومن خلال المؤشرات المحلية، والتجارب التي تكررت في غالبية المناطق الثائرة، قد يتبين، بأن التشكيلات العسكرية المختلفة، لم تدرك يوماً بأن سلاحها الأول والأخير، والحامي الفعلي لها هو الحاضنة الشعبية، وهو الدرع الأمتن، لكن قيادات الفصائل لم تستمع لنداءات الشارع المدني، فحصدت من خلال عنادها أو تبعيتها أقصى النتائج التي لا يمكن تجاهلها، وفي حاضر آخر قلاع الحرية في سوريا، تعود إشارات الاستفهام مجدداً، لتصبح الفصائل أمام التحدي الأخير لها، فإما تنجح في تخطي نتائج الفشل السابقة، وتعود للاستماع إلى صوت السوريين، وإما ستكون الأداة التي ستحول الأحلام إلى كوابيس، قد لا يستيقظ السوريون من وحشتها لعقود طويلة.

 

الفصائل التي تخلت عن الحاضنة الشعبية، حصدت أقصى النتائج المرحلية

لا يخفى على أحد بأن تركيا، تنطلق في مفاوضات الشمال السوري من مبدأ المصلحة التركية القومية والداخلية أولاً، وهذا في المقاييس السياسية لا حرج فيه، ولكن تلك المصالح تتقاطع مع مصالح السوريين في الوقت الراهن، فلا تركيا قادرة على حسم المعركة لو تخلت عن مدنيي الشمال، وذات الأمر ستعاصره فيما لو قررت طّي صفحة التشكيلات العسكرية، ولكن إذا ما عدنا للتصريحات التركية، فنجد بأن غالبية الأحاديث الرسمية التركية ترتكز بشكل كبير على المدنيين، فورقة المدنيين كفيلة بالحصول على إسناد دولي ضد الحلف الروسي، ولعل الجولات المكوكية التي تجريها أنقرة اليوم في أوروبا، دليل آخر على سياستها الواضحة إلى حد بعيد بأنها لن تترك الشمال السوري لقمة سائغة أمام الروسي، وفي ذات الوقت تسعى للحصول على توافقات مع موسكو لإعادة العجلة الاقتصادية إلى العمل مجدداً، ولكن دون التخلي عن أوراق القوة التي بحوزتها، إذ إن كل دولة تعتمد في صراعاتها الدولية في العمق السوري على الأسلحة المحلية التي حصدتها فيما سبق.

بالعودة إلى اتفاق سوتشي، لا بد من التنويه إلى أن المنطقة منزوعة السلاح، هي أول خطوات التحدي وكسر القرارات بالقوة بين الروسي والتركي، وبين الأسد والثورة، فإذا صمت المدنيون وعسكر الثورة عن التلاعب الروسي الرامي لجعل منطقة منزوعة السلاح من جانب المناطق المحررة فقط، فهذا ستتبعه العديد من التنازلات المصيرية، التي ستحول الشمال السوري إلى سجن كبير لمن يقطن فيه، وإذا تم إيقاف الغوغائية الروسية في أولى الخطوات، ستكون المواقف التالية لها أكثر تماسكاً، لذلك على الجميع رفض أي بند يجبر الثورة على تنفيذ خطوات بشكل منفرد، والثبات على االتنفيذ بالمناصفة بين كافة الأطراف، وهنا التعويل على صوت الشارع المدني لرفض خطوات الاحتلال الروسي المنفذة بالأسلحة السياسية.

 

المنطقة منزوعة السلاح، أولى خطوات التحدي وكسر القرارات بالقوة

نعم، اليوم سوريا الثورة في وضع لا تحسد عليه، والبعض يرى بأن المعركة قد حسمت لصالح الأسد عبر حليفيه الإيراني والروسي، وهنا أقول لكم، المعركة قد بدأت فعلياً الآن، وانتقلت المواجهات من شكلها المحلي إلى مرحلتها الدولية، وصوت المدنيين السوريين الثائرين في الشمال اليوم، أقوى من السلاح، وأثبت من سلاح الفصائل، وهذا لا يعني أبداً تخلي السوريين المدنيين، عن السوريين المتعسكرين، فالمقاتلون في سبيل الحرية لم يبخلوا بالذود عن قضيتهم طيلة السنوات الخالية، ولكن ما تعانيه الثورة السورية ماا تزال، هو غياب القيادة الحقيقية لمشروعها الوطني الجامع، وهذه المعضلة كانت منذ الأيام الأولى إلى الوقت الحالي، من أكثر التحديات التي لم تنجح الثورة السورية في تخطيها، وهذه الحلقة المفقودة، هي المسبب الرئيسي لما آلت إليه أحوال العسكر، في حين تستمر أصوات السوريين المدنيين بالهتاف ضد الأسد ونظامه الديكتاتوري.