إدارة التوحش والهندسة الاجتماعية في الدويلات السورية

2019.09.09 | 00:09 دمشق

+A
حجم الخط
-A

بعيداً عن الصراع المحتدم حالياً حول منطقة "خفض التصعيد" في محافظة إدلب وأجزاء من المحافظات المجاورة، واستمرار "العمل" الأممي على الانتهاء من تشكيل اللجنة الدستورية. وكذلك بعيداً عن التجاذب التركي – الأميركي بشأن المنطقة الآمنة في شرقي نهر الفرات، وأخيراً بعيداً عن ارتفاع وتيرة الحرب الإسرائيلية على استطالات إيران الممتدة من العراق إلى سوريا ولبنان. أي باختصار بعيداً عن اليوميات السورية التي يراد لنا أن نفهم منها أن الأمور في طريقها إلى نهاية الصراع وبداية الحل، يبقى أن سوريا مقسمة، عملياً ومنذ سنوات، إلى مجموعة دويلات أمر واقع تحكمها قوى أمر واقع متعددة: نظام بشار الكيماوي، قوات سوريا الديموقراطية (قسد)، الجيش التركي مع الفصائل التابعة له، هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً)، وبعض جيوب متبقية في يد "داعش" بعد تقويض "الدولة الإسلامية".

جميع القوى المذكورة تعمل على إجراء أنواع من الهندسة الاجتماعية في مناطق سيطرتها، منطلقةً من استباحة الأرض والمجتمع وكأنهما "مال داشر"، بما يذكّر، في جانب منه بالمشروع الصهيوني الذي اعتبر فلسطين "أرضاً بلا شعب". أما قوى الأمر الواقع في سوريا فهي لا تنكر وجود السكان "الأصليين" لكنها تعمل على تهجير قسم منهم، ذلك الذي يخفق في مطابقة "المعايير المطلوبة"، ويقسر القسم المتبقي على مطابقتها.

من الإنصاف البدء بالنظام الأسدي الكيماوي، لأنه الأقدم (الأكثر عراقة في هذا الباب) من جهة أولى، ويسيطر – الآن – على المساحة الأوسع من جهة ثانية، ويمسك بالأدوات الأكثر فتكاً من جهة ثالثة، ويتمتع، بخلاف القوى الأخرى، باعتراف دولي بصفته ممثل "الدولة".

لقد كان النظام الكيماوي يمارس نوعاً ناعماً نسبياً من الهندسة الاجتماعية طوال تاريخ إمساكه بالسلطة، فيحدد معايير الوطنية بالنسبة للسوريين ليكونوا مقبولين في دولته، ويمكن تلخيصها بمعيار الولاء للسلطة بصرف النظر عن أي اعتبارات أخرى. الوجه الشمولي لهذا النظام كان يتدخل في كل جوانب حياة السكان فيصنع "المواطن المقبول" المندرج في آليات السيطرة والخضوع.

التغير الذي طرأ على هذه الهندسة الاجتماعية، بعد اندلاع الثورة، يتعلق بعمليات تغيير ديموغرافي هدفها خلق "مجتمع متجانس" حسب تعبير رأس النظام الكيماوي، لا يخلو من وجه طائفي وإن يكن غير مقتصر عليه. وأعني بالوجه الطائفي أن البيئات المستهدفة بالتهجير هي بيئات عربية سنية حصراً

التغير الذي طرأ على هذه الهندسة الاجتماعية، بعد اندلاع الثورة، يتعلق بعمليات تغيير ديموغرافي هدفها خلق "مجتمع متجانس" حسب تعبير رأس النظام الكيماوي، لا يخلو من وجه طائفي وإن يكن غير مقتصر عليه. وأعني بالوجه الطائفي أن البيئات المستهدفة بالتهجير هي بيئات عربية سنية حصراً. لكن "المجتمع المتجانس" كما يحلم به النظام لا يمكنه أن يقتصر على العلويين أو حتى جميع الأقليات الدينية والمذهبية، بل سيبقى قسم كبير منه من العرب السنة بحكم أكثريتهم الكبيرة في جميع المناطق، على أن يكونوا موالين بالمطلق ليستحقوا البقاء ضمن المجتمع المتجانس.

القوة الثانية التي مارست الهندسة الاجتماعية في مناطق سيطرتها هي منظمات الإسلام الجهادي، وبخاصة تنظيم "الدولة" و"جبهة النصرة". وإذا كانت المعايير المتشددة للإسلام "المقبول" بالنسبة لها قد دفعت بالآلاف من السكان إلى الهجرة عن تلك المناطق بحثاً عن شروط أقل سوءاً، فسياسة التهجير القسري لم تمارسها تلك المنظمات بصورة منهجية، بل كان همها السيطرة على السكان من خارج ومن داخل، أي على سلوكهم وعقولهم على السواء، من غير بذل جهد يذكر لكسب قلوبهم أيضاً. في هذه النقطة الأخيرة (كسب القلوب) تشترك جميع قوى الأمر الواقع في الدويلات السورية، ذلك أن المهم، بالنسبة لها، هو الطاعة الظاهرة والخضوع المعلن، بصرف النظر عن الرضى الحقيقي، بل يمكن القول إن الرضى الحقيقي غير مرغوب فيه لأن من شأنه إزالة الجدار الذي يفصل بين الحاكمين والمحكومين. على المحكوم أن يرضخ خوفاً لا قبولاً. لذلك رأينا تلك الحالة المتطرفة من العنف المشهدي في كل من "الدولة الأسدية" و"الدولة الإسلامية" من حرق الناس أحياء أو قطع الرؤوس أو غيرها من الأعمال الشنيعة التي هدفها بث الرعب في القلوب للحصول على الرضوخ التام، مقابل عدم تسجيل فظاعات مماثلة في دويلة قسد أو الجيوب التركية.

دويلة قسد هي المناطق التي تسيطر عليها قوات سوريا الديموقراطية التي تشكل عمودها الفقري "قوات حماية الشعب" الكردية – الجناح العسكري لحزب الاتحاد الديموقراطي، وهو الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني في تركيا. وقد مرت "تجربة" الإدارة الذاتية، في تلك المناطق، بمراحل عدة، وفقاً للظروف، لترسو، بإلهام من الحليف الأميركي، على صيغة "الإدارة الذاتية الديموقراطية" مع مظلة سياسية باسم "مجلس سوريا الديموقراطية" تضم، إلى حزب الاتحاد الديموقراطي، قوى وعشائر عربية وسريانية وغيرها من مكونات المنطقة، ومظلة عسكرية باسم "قوات سوريا الديموقراطية" مدعومة من الولايات المتحدة ودول أوروبية.

استلهمت تجربة "الإدارة الذاتية الديموقراطية" من أفكار عبد الله أوجالان التي بلورها في سجن إيمرالي، في السنوات المبكرة من اعتقاله. وجوهرها نوع من الإدارة الديموقراطية المباشرة للسكان، بعيداً عن سيطرة الدولة المركزية أو بتجاهل وجودها. نوع من "الكومونة" الشعبية التي تدير شؤونها بنفسها. هذه الأفكار استلهمها أوجالان، بدوره، من المفكر الأميركي موراي بوكشين الذي ترجمت جميع مؤلفاته إلى اللغة التركية، وتم إيصال نسخ منها إلى أوجالان في سجنه. بوكشين المتحدر من تجربة سياسية شيوعية ونقابية، سيتحول لاحقاً إلى منظر فوضوي – إيكولوجي، فيدعو إلى الاهتمام بالإدارات المحلية بوصفها بديلاً عن السلطات المركزية. ثمة مراسلات بين أوجالان وبوكشين، على مدار العام 2004، في وقت كان الأخير فيه يعيش الأشهر الأخيرة من حياته طريح الفراش. يبدي أوجالان إعجابه بأفكار بوكشين، معبراً عن طموحه لتحقيقها في المناطق الكردية. بالمقابل يبدي بوكشين إعجابه بتجربة النضال الكردي بالصورة التي عرضها أوجالان له في رسائله، متذمراً من تجاهل الإعلام الأميركي لتلك التجربة النضالية، معتذراً عن جهله بها بسبب ذلك.

صحيح أن الفكر الأوجالاني الجديد هذا لا يقوم على ركيزة قومية، بل على مجتمع متنوع الأعراق والثقافات، لكن ذلك لم يمنع قوة الأمر الواقع من تهجير قسري لسكان قرى من مكونات غير كردية

توسعت قليلاً في عرض الأصول الفكرية لدويلة قسد، لأنها غير معروفة على نطاق واسع. لكن النتيجة هي نفسها: نوع من الهندسة الاجتماعية تفرض، بقوة السلاح، مخططاً ذهنياً على السكان "من أجل مصلحتهم بالذات"! ولسان حال حاملي هذا الفكر الإيكولوجي: (نريدكم أن تحكموا أنفسكم بأنفسكم! وبما أنكم تجهلون كيف يمكن القيام بذلك، فسوف نعلمكم، ونحدد لكم معايير الصح والخطأ). صحيح أن الفكر الأوجالاني الجديد هذا لا يقوم على ركيزة قومية، بل على مجتمع متنوع الأعراق والثقافات، لكن ذلك لم يمنع قوة الأمر الواقع من تهجير قسري لسكان قرى من مكونات غير كردية، والاستيلاء على ممتلكات مهجرين.

في دويلة الجيوب التركية فصائل مسلحة هي الأقل أدلجة بين نظرائها، فليست لديها "قضية كبيرة" تهندس السكان وفقاً لمقتضياتها. عقيدتها الوحيدة هي التعفيش، وفي منطقة عفرين الكردية التنكيل بالسكان بهدف دفعهم إلى النزوح إلى مناطق أخرى. وفي ذلك تنفيذ لهندسة اجتماعية تركية عمرها من عمر الجمهورية، تأسست على طرد العناصر غير التركية وغير المسلمة لخلق "أمة تركية متجاسة".

تجد الهندسة الاجتماعية الجارية على قدم وساق، في مختلف المناطق السورية، أساسها النظري الأصفى في كتاب "إدارة التوحش" لأبي بكر ناجي، حيث يعتبر كل أرض يضعف فيها حضور الدولة المركزية هدفاً لفرض سلطة المجاهدين. وبهذا المعنى، يمكن توسيع مجال الحديث عن الهندسة الاجتماعية بمدها إلى مناطق سيطرة النظام التي تتألف بدورها من "دويلات" أمراء الحرب الذين باتوا، إلى حد ما، خارج سيطرة النظام في دمشق.