أيها العالم "نحن لسنا أسوياء"

2023.03.02 | 06:09 دمشق

أيها العالم "نحن لسنا أسوياء"
+A
حجم الخط
-A

لديَّ، ما لدى الكثيرين منكم، من أمراضي التي أحاول إخفاءها عن الآخرين. ليس ذلك لأقدّم نفسي بحالة أفضل مما هو الحال، ولكن لاعتقادي أن لا شأن للآخرين بها، فهي كما يقال لا تقدّم ولا تؤخر. واحد من تلك الأمراض التي لا أبوح بها عادة إلا للقليل من الأصدقاء، هو رُهاب (فوبيا) الأماكن الضيقة. وعيتُ حالتي منذ أن كنت فتى، فلم أنخرط في أيٍّ من ألعاب الصبية المنزليّة التي تحتاج الاختباء في أماكن ضيقة ومعتمة، تحت الأسرّة أو في خزائن الثياب، مما يجعل رئتي تعتذر عن ممارسة فعلها التلقائي في الشهيق والزفير.

حدث مرة أثناء شبابي أن توقف المصعد في بناء العمل، وبدأت حالة الفوبيا تتفاعل لديَّ على الفور، فما كان مني إلا أن فتحت الباب عنوةً وتسلقت إلى الطابق الذي يظهر منه النور، وخرجت معفّراً. في مثل تلك المغامرة فقد عديدون حياتهم، عندما كان المصعد يتحرك فجأةً، فتنهرس أجسادهم بين أرضيته، وسقف الطابق التالي، أو العكس. بالنسبة لي كانت المغامرة تستحق، فأنا في مثل تلك الحالة، سأشعر أن قدرتي على التنفس قد انعدمت تماماً.

في ليلة من نهايات صيف عام 1987، شعرت بالنعاس والتعب. كان قد مضى من الوقت وأنا واقف على قدمي، أكثر من ساعة دون أن أفعل أي شيء. الحقيقة لم يكن معي ساعة يد لأعرف كم مرَّ من الوقت تماماً، فقد أخذوها مني، مع بقية ما أحمل في جيوبي، قبل أن يودعوني الزنزانة الانفرادية. فور دخولي إليها، وكانت الساعة تقريباً الثانية بعد منتصف الليل، شعرت بالمأزق، وعرفت أني عما قليل سأختنق في تلك المساحة الضيقة والمعتمة تماماً. مباشرة توجهت نحو الشرّاقة (نافذة صغيرة أعلى باب الزنزانة) التي كانت مفتوحة لحسن حظي. هناك وضعت أنفي ليتنفس وأطللت بعينيَّ على ضوء الممر، كي أهرب من ضيق المكان.

لا بأس سوف أنام، قلت لنفسي فأمامي غداً، على ما عرفته نظرياً عن الاعتقال لدى المخابرات السورية، يوم طويل وعصيب، وعليَّ أن أكون مستعداً له

لكن، كما هو متوقع، بعد حوالي الساعة تعبت. فاتخذت قراراً حاسماً أن أتجاوز حالتي وأغمض عيني وأنام. طبعاَ تستطيعون التخمين أنه لم يكن هناك فراش، بل بضعة بطانيات رطبة ومتسخة، مرمية في زاوية الزنزانة. لا بأس سوف أنام، قلت لنفسي فأمامي غداً، على ما عرفته نظرياً عن الاعتقال لدى المخابرات السورية، يوم طويل وعصيب، وعليَّ أن أكون مستعداً له.

وكان أن نمت فعلاً، ولم أستيقظ سوى على فتح باب الزنزانة صباحاً، والسجان يرمي لي ببيضة واحدة ورغيف صغير من الخبز. لحسن الحظ ثانية نسي الشراقة مفتوحة. على عكس ما ستتوقعون من سجين حديث العهد بالزنزانة، فقد تناولت فطوري كاملاً، أيضاً استعداداً ليومي العصيب. صفة (العصيب) التي ما زلت أستخدمها حتى الآن ستتحول بعد أقل من ساعة إلى جهنميّ أو جحيميّ. لم تذهب استعداداتي سدىً، فبعد الفطور حضر السجّان. قيّدني ووضع العصبة على عيني، وساقني إلى غرفة التحقيق.

لن أخبركم عما جرى لي في غرفة التحقيق، ولكم أن تخمّنوه. سأصف لكم فقط النتائج على جسدي، وحالتي وأنا عائد إلى الزنزانة. كانت قدماي متورمتين وتنزفان في أكثر من موضع، كذا أنفي وفمي كانا ينزفان، أما أسناني الأمامية فكانت جميعها مخلخلة. أجل على تلك الحال، رماني السجان بدفعة قوية داخل الزنزانة. والآن لن تستطيعوا التخمين عن إمكانية وجود ميزة لما جرى معي وعليَّ، وسط ذاك الجوِّ الجحيمي. أنا سأقول لكم: لقد شّفيت من رهاب الأماكن الضيقة. لكم أن تتصوروا الكارثة في أن يكون العلاج والدواء لمرضي المزمن، هو ما مررت به في غرفة التحقيق.

دخلت الزنزانة الضيقة المعتمة، ولم أعد أرغب بمغادرتها أبداً (سيحدث ذلك عدة مرّات للأسف). كان ضيق الزنزانة المعتمة أكثر أُلفةً وحنوّاً آلاف المرات من غرفة التحقيق المُضاءة والواسعة، فهنا لا كابلات عمياء تصفع أينما اتفق، ولا كهرباء تخترق الجسد وترجّهُ إلى حدّ فقدان السيطرة على حركته، ولا دواليب لينحشر الجسد فيها، ولا حذاء يندفع إلى الفم فيخلخل الأسنان ويفزِّر الشفتين. والأهم من كل هذا، أن الزنزانة من القذارة بحيث أن العقيد الوغد الذي حقّق معي سيأنف من زيارتها.

وزيادة في مديحي لإيجابيّات العلاج بالتعذيب الشديد، سأروي لكم كيف شفيت من عرضٍ آخر. كانت مشاهدة نزفِ وتدفق الدم البشري، تسبب لي على الدوام حالة من الدُوار. وصلتْ في عدّة مرات إلى الإغماء، خلال يفاعتي. سألاحظ بعد انتهاء التحقيق وذهابي إلى سجن صيدنايا، أني اعتدت مشهد الدم ولم يعد يؤثر بي. عندما كانت أي من الحوادث تصيب بعض الزملاء فينزفون القليل أو الكثير من الدم. كنت أراقب المشهد بحيادٍ، دون أي من الأعراض التي كانت تصيبني فيما مضى.

مرت سنوات طويلة على ما أرويه لكم. ولكن حديثاً، قبل سنوات قليلة، كنت في الطائرة مسافراً داخل تركيا، من إسطنبول إلى غازي عنتاب. قبل أن تحط الطائرة بثوانٍ قليلة، راحت تتأرجح يميناً ويساراً بعنف شديد، بسبب رياح شديدة في منطقة المطار. علَتْ الأصوات في الطائرة. وقف البعض وراحوا يصرخون من الذعر، وانخرط آخرون بالأدعية بأصوات عالية بقصد أن تصل سريعاً إلى السماء، ولم يكونوا قليلين من أصيبوا بهستيريا حقيقية، ولم يكفّوا عن الصراخ، حتى عندما أعاد القائد طائرته إلى وضع الإقلاع، ليقوم بجولة أخرى في السماء قبل الهبوط.

كان ذاك اليوم فارقاً في حياتي، لأكتشف ليس فقط أنني لست بخير، بل ولست سويّاً أيضاً، فقد كان احتمال الموت قربي تماماً، ومع ذلك لم يحرك بي الأمر ساكناً

كنت المسافر الوحيد، وأجزم لكم أني الوحيد، الذي لم يرفّ له جفن. كل ما فعلته هو أنني كنت أتلفت وأراقب ردود أفعال الناس، ومنهم من فقد السيطرة على أعصابه تماماً، لدرجة أننا وجدنا سيارات الإسعاف تنتظر هؤلاء مقابل سلّم الطائرة، حين هبطنا بسلام. أنا لست بطلاً، وحينها لم أحاول أن أمثل دور البطل، وكنت أعتقد دائماً، أنني إنسان طبيعي، لا أحب الموت وأخاف مما يخيف الآخرين. ولكني يومها لم أخف.

كان ذاك اليوم فارقاً في حياتي، لأكتشف ليس فقط أنني لست بخير، بل ولست سويّاً أيضاً، فقد كان احتمال الموت قربي تماماً، ومع ذلك لم يحرك بي الأمر ساكناً. وفي توصيف حالتي بمجملها، يمكنني التعميم قليلاً على نسبة لا بأس بها من السوريين، بعد كل ما مرّوا به، في سجون الأسد، وتحت قصف صواريخه وطائراته وبراميله، وفي هروبهم من الموت ونزوحهم ولجوئهم، وابتلاع البحر لآلاف منهم، وأخيراً في موتهم تحت أنقاض الزلزال الذي دهمهم دفعة واحدة، وهم من اعتادوا أهوالاً أكبر بكثير، وموتاً لمئات الآلاف من السوريين، لكن بجرعات امتدّت على مدى أكثر من نصف قرن. نصفُ قرنٍ كان الأطول في التاريخ السوري. نعم سأسمح لنفسي بشيء من التعميم، لأعترف عن نفسي وعنكم أيضاً، وأقول: إننا لم نعد أسوياء. أيها العالم نحن لسنا أسوياء، ولسنا بخير.