بعض الأوهام أقوى تأثيراً من الحقائق، وفي كثير من الأحيان يقع البعض أسيراً طيلة حياته لأوهام لم يكلف نفسه يوماً عبء البحث فيها ولا يستيقظ منها بعد فوات الأوان، في السياسة الخيط رفيع للغاية بين فهم الوقائع وتوهمها، وبين التخطيط والتدبير للتعاطي معها ومواجهتها وبين القبول بها والاستسلام لشلل رباعي كامل في مواجهتها. إنه لأمر عادي أن يخطئ المرء ويتوهم، ثم تأتي الوقائع وتصحح له، لكنه من غير العادي أن لا يمتحن السياسي على الدوام صحة أفكاره وتصوراته وآرائه على الدوام، وأن يستمر بالتوهم بالرغم من الوقائع التي تنفيه ثم يستمر في خلق الأعذار والبحث عن مبررات للتمسك به، أي يصبح هو بحد ذاته صانعاً للوهم.
لقد صدَّر النظام لمواليه الكثير من الأوهام، وقادهم للموت المحقق، وفي الوقت الذي كان يتحدث عن "عودة الدولة" أنهى الدولة ذاتها وسلمها للإيرانيين،
باع آخر ما تبقى في الدولة للروس، أي ما تبقى من القرار "السيادي" للدولة، وصار زبوناً تحت الطلب، ولا يهم الآن مدى التقدم العسكري الذي تحرزه القوات الروسية والميليشيات الشيعية الإيرانية على الأرض فقد انتهت الدولة.
النظام نفسه وقع أسير العديد من الأوهام الكبرى، كان يعتقد أن القضاء على ثورة شعبية بالقوة المفرطة ممكن، وكلما رآها تكبر كان يزج في المعركة عنصراً جديداً، حولها إلى طائفية، ثم أدخل الإسلاميين السلفيين الجهاديين في المعركة، ولما تفكك جيشه صار محتاجاً للأجانب لقتال شعبه، وكان ثمن ذلك هو حرفياً بيع الدولة ذاتها، ولما لم يجدِ ذلك وتبدد الوهم في القضاء على ثورة شعبية حتى وإن تغيرت ملامحها تبدد الوهم واكتشف أن الأمر يحتاج إلى قوة عظمى تقف بجانبه بقوتها العسكرية وليس السياسة فحسب، فباع آخر ما تبقى في الدولة للروس، أي ما تبقى من القرار "السيادي" للدولة، وصار زبوناً تحت الطلب، ولا يهم الآن مدى التقدم العسكري الذي تحرزه القوات الروسية والميليشيات الشيعية الإيرانية على الأرض فقد انتهت الدولة، وصارت ملكاً للأجانب بعد أن اقتلع ثلث سكانها وهجروا خارج الحدود، وصار رأس النظام أمام ملف جرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية أكبر من أن تسمح له بالبقاء، فوجوده صار عبئاً على الجميع، وسيكون هو نفسه جزءاً من موضوع أية تسوية سياسية سيقوم بها المالكون الجدد للدولة المجوَّفة.
لم تسلم المعارضة بطبيعة الحال من الأوهام، وإذا كانت الفصائل والقوى العسكرية فاقدة للخبرة والأدوات اللازمة للتحليل والتمييز بين الحقائق الفعلية وتفسيرها والأوهام حولها، فإن المعارضة السياسية يفترض أنها تملك الحد الأدنى الذي يسمح لها بالتدقيق في الأمور، أولاً علينا أن نعترف أننا أمضينا وقتاً طويلاً نتعلم في السياسة، فما مارسه الجميع قبل الثورة بما في ذلك الأحزاب التقليدية لم يكن سياسة بالمعنى الحقيقي للكلمة، كان الأمر مزيجاً بين مطاردات أمنية وخبرات تنظيمية ذات نمط سري في الغالب، لأول مرة في الثورة السورية واجهنا علاقات دولية، ودخلنا في لعبة سياسية أكبر بكثير من خبراتنا السياسية عموماً، لم يكن في سوريا حياة سياسية، هذا كان أمراً طبيعياً، وقعنا في أوهام كثيرة، كثيرون أيضاً تعلموا منها، لكن كثيرين كانوا غير قادرين على التعلُّم، بل إن بعضهم يعاني "صعوبات تعلم" حقيقية مستواه الذهني أضعف بكثير من أن يكون في واجهة عمل سياسي بحجم الثورة لكن قدر الثورة العاثر وضعه في هذا الموقع.
على رأس تلك الأوهام التي وقعت فيها المعارضة هو وجود "حلفاء"، في الواقع ما كان لدينا سوى مجرد "أصدقاء" متنافري المصالح على الأرض السورية، حتى لم نكلف أنفسنا جهداً كبيراً لتحديد هوية مصالحهم ومدى تنافرها فيما بينها وتقاطعها معنا، هم أنفسهم أطلقوا على تجمعهم الداعم للثورة السورية اسم "أصدقاء الشعب السوري"، للأمانة لم يكن ينتبه أحد إلى أن هذا الاسم هو أصدق تعبير عن الواقع، لكننا كنا معنيين بالدعم والمساندة ولم تكن التسميات ذات قيمة، رغم أن كل ممارساتهم كانت تقول إنهم يريدون أن يحققوا مصالحهم بغض النظر عن المصالح السورية، ومستعدون لبيعها في أي لحظة.
الوهم الثاني الذي باعوه واشتراه الكثيرون منا هو "المقعد الفارغ"، فمع خروج التنظيمات السياسية وتشكيل الأجسام المتصدرة رسمياً للتعبير السياسي عن الثورة صار العديد من أطراف المعارضة يخشى من فكرة "المقعد الفارغ"، أي أنه إذا لم يقبل هو بملء المقعد الذي أعده له "الحلفاء" فسيستبدلونه بغيره، وهنالك الكثير من الطموحين "الركّيبة" الذين سيملؤونه دون تردد. وبين رغبة البعض أن يكون جزءاً من لعبة الدول بغض النظر عن مؤهلاته ورغبة البعض الآخر بالحفاظ على الخط الأساسي للثورة وعدم إخلاء المقعد لآخرين غير مضموني الاتجاه، صارت كلمة "لا" محذوفة من القاموس السياسي للمعارضة (Yes man)، مع أن جميع النعمات التي قالوها لم تحقق أي إنجاز، بالعكس كانت النعمات تعني بالضبط تنفيذ رغبات "الأصدقاء"، والتي كانت تؤشر كل يوم أنهم جميعاً كانوا أسوأ من الأعداء.
يفهم البعض لعبة المقعد الفارغ كجزء من الواقعية السياسية، محطات كثيرة كان يمكنهم أن يقولوا "لا" ويناورا ويغير من مسار العبث السياسي في القضية لكنهم فضلوا ليس فقط قول نعم خوفا من المقعد الفارغ بل وطرد جماعة "لا" والتآمر مع الدول لإخراجهم وإفراغ مقاعدهم؛ لأنهم "متشددون" على حد تعبير لافروف قبل انعقاد رياض2. اليوم نسمع في سياق التبرير للمشاركة في لجنة سوتشي الدستورية قضية المقعد الفارغ مجدداً وحرفياً!
ما يطبق فعلياً هو الاستسلام السياسي لإرادة ومصالح الدول، وتحويل السوريين جميعهم إلى الرقم صفر في المعادلة السياسية.
إن لم يوافقوا فستأتي الدول بمعارضة بديلة توافق، وصلنا للأسف إلى هذا الحد من امتهان النفس وشلل الإرادة، كيف يمكن لأشخاص أن يكونوا قادة هذا منطق تفكيرهم؟
الأساس في فهم الواقعية السياسية لدى متصدري مشهد المعارضة الآن هو مبدأ العمل السياسي تحت سقف الوقائع والمستجدات الدولية والإقليمية، وتحقيق ما يمكن تحقيقه تحت هذا السقف الذي ينخفض كل يوم، مؤدى هذا الفهم السقيم للواقعية هو بيع الوهم بأن ثمة عمل سياسي يقوم به البعض، وما يطبق فعلياً هو الاستسلام السياسي لإرادة ومصالح الدول، وتحويل السوريين جميعهم إلى الرقم صفر في المعادلة السياسية، باختصار هو يعني أن البعض يفهم الواقعية من "الوقوع" والسقوط، وليس من فهم الواقع والتعامل معها لتحقيق المهمة التي أنيطت بهم انطلاقاً من الحقائق الصلبة المتعلقة بما حدث في سنوات الثورة السبع. أو من "الوقِيعة" للحفاظ على مقعدهم كي لا يبقى فارغاً.