أوروبا تدفع ثمن ترددها بين حماقة بوتين وجشع أميركا

2022.10.11 | 05:47 دمشق

الرئس الروسي فلاديمير بوتين
+A
حجم الخط
-A

إنها لمعضلة فعلاً، فهذه الحرب لم تعد تقبل أن ينتصر فيها طرف، ولا أن ينهزم فيها طرف، وهي حرب بين طرفين كلاهما مدجّج بأسلحة نووية، ويمكنه استعمالها، رغم معرفة الجميع أنه لن يكون هناك منتصر إن نشبت، ومتى انطلقت شرارتها الأولى، فلا يمكن لأحد أن يتكهن كيف ستتدحرج كرتها، والتي يمكن أن تنهي الحياة على سطح هذا الكوكب المحكوم بالجنون.

لاتريد أوروبا أن تهزم بوتين إلى الحد الذي يدفعه إلى ارتكاب حماقة إشعال حرب نووية، ولا تريد حصاره إلى حد عدم ترك منفذ له، لكنها لا تستطيع أن تخضع لجنون عظمته، وأحلامه بروسيا قيصرية عظمى، وهو يدرك هذه المعادلة جيداً، فيمعن في هروبه إلى الأمام، وهو أيضاً يدرك أن استراتيجية أوروبا ومن خلفها أميركا، هي استمرار الحرب بشكلها الحالي، رغم تباين هدفهما من هذه الاستراتيجية، فأوروبا تريد جره إلى التفاوض، بينما تريد أميركا هزيمته، وهو لن يستطيع أن يحتمل طويلاً هذه الحرب، فاقتصاده بدأ ينهار، وجبهته الداخلية بدأت تتصدع، وهما العاملان اللذان تعوّل عليهما أوروبا وأميركا، واللذان بدأت روسيا تئن تحت وطأتهما، فها هو وزير الخارجية الروسي "لافروف"، وفي إشارة واضحة إلى حجم الألم الذي سببته العقوبات الاقتصادية على روسيا، يصرّح أن روسيا واجهت هذه العقوبات حتى الآن بالصبر، لكن صبرها بدأ ينفد، وها هو بوتين يقدم على تبديل ثامن في قيادة قواته التي تحارب في أوكرانيا، في مؤشر واضح على تخبط يعصف داخل القيادة الروسية.

من يراقب تسلسل الأحداث، وتصاعدها، ومسارها، سيجد أن هناك من يريد لهذه الحرب أن تمضي حتى نهايتها، أي بانتصار عسكري واضح، وفي خيار الحرب حتى النهاية، اتضح منذ البداية أن هناك تباينا بين أميركا وأوروبا، وأيضاً فيما بين الدول المنضوية في الاتحاد الأوروبي، لكن تعنت بوتين وحماقاته المتتالية، أضعفت كثيراً من هذه التباينات، ودفعت الجميع إلى تبني مواقف أكثر تناغماً وتشددا.

لاتريد أوروبا أن تهزم بوتين إلى الحد الذي يدفعه إلى ارتكاب حماقة إشعال حرب نووية، ولا تريد حصاره إلى حد عدم ترك منفذ له، لكنها لا تستطيع أن تخضع لجنون عظمته

من جهته يحاول الرئيس الأوكراني "زيلنسكي"، أن يغلق باب الحوار مع بوتين، كي يغلق باب الخيارات أمام أوروبا، التي حاولت ولا تزال أن تضغط على بوتين لجره إلى التفاوض، ومن أجل ذلك أصدر قانوناً يمنع التفاوض نهائياً مع بوتين، كأنّه يريد القول للأوربيين ليس هناك إلا الحرب والانتصار فيها، وأنه ليس أمامكم إلا تبني هذه الحرب كخيار وحيد، بعد أن أصبحت الخيار الوحيد له، وهو – أي زيلنسكي – يحاول أن يضمن بتبني أوروبا لخيار الحرب، عدم الضغط عليه مستقبلاً مرضاة لبوتين المتغطرس، لكن أوروبا لن تكون قادرة على الذهاب إلى أقصى رغبات زيلنسكي، وقد تجد نفسها مضطرة للضغط عليه من أجل التفاوض.

أما أوروبا التي كانت تخاف شتاءً قاسياً، ورغم أنها استطاعت أن تؤمن من الوقود مايضمن لها شتاءً أقل دفئاً، لكنه ليس بارداً إلى الحد الذي توعد به بوتين الأوربيين، فقد أملت أنها إن تجاوزت هذا الشتاء، فإنها ستجد حلولا لشتاءات قادمة، من أهمها أن تتوقف هذه الحرب ويعود الغاز الروسي لتدفقه، لكن ثمة من يحاول إغلاق الباب نهائياً أمام هذا الحل، لا بل إن أميركا لم تقبل أن تقف إلى جانب أوروبا في محنتها هذا الشتاء، ولم تفوت هذه الفرصة وبدأت تبيع أوروبا الغاز بأربعة أضعاف سعره، مما دفع قادة أوربيين للصراخ بوجهها، لتأتي  تفجيرات خطي نورد 1و2، لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، بمثابة قطع الطريق على تردّد أوروبا، وتدفعها لحسم خيارها، ومدى انخراطها بالحرب.

في تصريحه الذي يُعاد التذكير به كثيراً بعد تفجير نورد ستريم، قال "بايدن": (إذا غزت روسيا أوكرانيا فلن يكون هناك نورد ستريم)، وعندما عقب أحد الصحفيين قائلاً: (لكن نورد ستريم تحت الإدارة الألمانية)، رد "بايدن" بأنه سيجد طريقة ما.

كانت الرسالة واضحة، وهي أنه على الأوربيين أن ينسوا الغاز الروسي، لكن الأنبوب ظل يعمل رغم انخفاض كميات الغاز التي ينقلها، وبتفجيره فإن نورد ستريم "سيكون عديم الفائدة إلى الأبد"، وهذا ما أكّدته الحكومة الألمانية عندما قالت إنه في حال تأخر إصلاح خطي الغاز بسرعة، فإنهما سيصبحان خارج الخدمة نهائياً، بينما ذهبت جهات حكومية ألمانية أخرى للقول إن الأضرار التي لحقت بخطي نورد ستريم، كانت واسعة النطاق لدرجة أن ترميمها أصبح مستحيلاً. لكن موسكو التي رأت أن هناك إمكانية لإصلاحه، إذا لم يتأخر الوقت، كانت تحاول إغراء ألمانيا، ودفعها لتغيير موقفها، والعمل على إنهاء الحرب بسرعة، إن أرادت إنقاذ نورد ستريم.

بإعلانه ضم الأقاليم الأربعة، أعلن بوتين شروطه لوقف الحرب، فهو يريد القول: إن القبول بالأمر الواقع يمكن أن ينهي الحرب، ولايهمنا في روسيا إن اعترفتم بهذا الضم أم لم تعترفوا، فآخر مايهمنا هو شرعية هذا الضم، فإن وافقتم فنحن جاهزون لوقف هذه الحرب، ولتأمين شتاء دافئ لكل أوروبا.

بالتأكيد لن يوافق أحد على شروط بوتين، لكن باب التفاوض كان لا يزال مفتوحاً بحدوده الدنيا، قبل أن يُفجَر نورد ستريم، وقبل أن يقوم أحد ما بتفجير الجسر الذي يربط شبه جزيرة القرم بروسيا، وها هي الحرب تتجه لتصعيد عسكري بالغ الخطورة، وهاهي أوروبا تقف أمام مشكلات تتفاقم، فالشتاء القادم المترافق مع انخفاض الطاقة وارتفاع ثمنها، وركود الاقتصاد وغلاء أسعار كل السلع بمافيها الغذائية، وبداية تململ الأوربيين ونزولهم إلى الشارع احتجاجاً، كل هذا يضع أوروبا أمام مواجهة قاسية، فإمّا أن تذهب إلى الحرب بكل قلبها، أو تذهب إلى التهدئة بكل قلبها، خياران أحلاهما مر فعلى أي جانبيك تميل؟

لقد ترددت أوروبا، وها هي تدفع ثمن ترددها، كان عليها أن منذ البداية أن تذهب إلى خيار واضح، فإما أن تمنع هذه الحرب، حتى لو اضطرت إلى بعض التنازلات، أو أن تعتبرها حربها منذ البداية.

لكن من هو الذي يغلق بوابات الحوار، ويدفع إلى تصعيد الحرب، ثمة احتمالات متعددة، لكن قد تكون أميركا في مقدمة هذه الاحتمالات!