أميركا بداية أُفول أم استراحة محارب؟

2022.08.25 | 06:05 دمشق

أميركا بداية أُفول أم استراحة محارب
+A
حجم الخط
-A

ثلاثٌ وثلاثون سنةً مرت على انهيار الاتحاد السوفييتي، تفرّدت خلالها أميركا بحكم العالم حقيقةً لا مجازاً. وحدها تقرر الحرب الدولية على بلد ما، فتنصاع لأمرها عشرات الدول. أسقطتْ أنظمةً وأقامت أخرى. عقيدة إمبراطورية عابرة للحدود لم تظهر دوماً ضمن أولويات الناخب الأميركي، في معظم استطلاعات رأي تلك الحقبة، لكنها تحققت على أرض الواقع وكأنها قدر عالمي.

أقولُ تلك الحقبة دلالة على الماضي، فجميع المؤشرات والأحداث الدولية خلال السنوات الأخيرة، تشير إلى أنّ أميركا اليوم لم تعد الحاكم الذي يقرر مصير العالم وحده. بل إنّ بعض "الحلفاء" الدائرين في الفلك الأميركي لعقود طويلة، باتوا اليوم يستشعرون بوادر غياب الدور الحاسم لحليفهم وراعيهم. تكفي جولة بسيطة في بعض الملفات الدولية التي أشعلها واحتكرها العمُّ سام، لتنفي عن هذه الخلاصة، شبهة الكلام المرسل.

في أيار الماضي فرضت طالبان النقاب في عموم أفغانستان. بدا الأمر كأن أميركا وديمقراطيتها لم يمرّوا من هناك

شهدت أفغانستان في الخامس عشر من هذا الشهر، احتفالَ طالبان بمناسبة مرور عام على "هزيمة القوات الأميركية"، وانسحابها من أفغانستان، وقد أعلن التلفزيون الحكومي الأفغاني هذا اليوم عطلةً رسمية، علماً أن الأمر برمّته، قد تم باستلام وتسليم، رسمه اتفاق الدوحة الذي وقّعه ترامب ونفّذه بايدن. قبل يومين فقط من الاحتفالات الطالبانية، خرجت مظاهرة نسائية في العاصمة كابول تطالب بحق المرأة في التعليم والعمل، فاستخدم عناصر من طالبان أعقاب البنادق والأعيرة النارية لتفريق المظاهرة، وفي أيار الماضي فرضت طالبان النقاب في عموم أفغانستان. بدا الأمر كأن أميركا وديمقراطيتها لم يمرّوا من هناك.

في الأول من هذا الشهر، أي قبل كابول بعدة أيام فقط، احتفلت صنعاءُ أيضاً بالنصر على أميركا، حيث نشر القيادي "حسين العزي" نائب وزير الخارجية في حكومة الحوثي، وعبر حسابه على تويتر، فيديوهات لعرض عسكري قدمته قوات الحوثي في العاصمة صنعاء، هنأ خلالها محمد علي الحوثي المجاهدين، حسب وصفه، بمناسبة انتصارهم على الطاغوت الإقليمي والدولي "أميركا".

سيرصد من شاهد الاحتفال "الماركة" المسجلة باسم الحوثي ومشغليه في طهران: "الموت لأميركا، الموت لإسرائيل"، ولم يعد من الغريب أن دعوات الموت المعلنة لن تتناقض مع آمال إيران بإعادة إحياء ملفها النووي، عبر مباحثات تتجه للإيجابية، حسب توصيف الأوروبيين أصحاب المبادرة الأخيرة.

سأتوقف هنا، ولن أتابع في الأمثلة عن السياسة الأميركية الباهتة والشكلية في العراق وسوريا وغيرها من بقاع الأرض، لأعود إلى الناخبين الأميركيين باعتبارهم مصدر السلطات، وبناء على اتجاهات آرائهم وميولهم تُرسم السياسات. فما الذي يتصدر سلم أولويات الأميركيين، المتعلقة بانتخابات الكونغرس النصفية، المزمع إجراؤها في 8 تشرين ثاني/نوفمبر المقبل؟ حسب استطلاع للرأي أجراه معهد الديمقراطية في واشنطن وشمل 1500 "ناخب محتمل" أكد 92% منهم، أن التضخم وارتفاع الأسعار هو قضيتهم الرئيسية ومصدر قلقهم، مقابل 8% فقط يرون أن ما يجري في أوكرانيا هو الأهم. يخشى باحثون أميركيون من مثل هذي النتائج المنكفئة على الوضع الاقتصادي والداخلي عموماً، وهو شعورٌ مبررٌ أمام هذا التدنّي في الطموح العام.

 يرى باحثون آخرون في هذي الاستنتاجات شيئاً من المبالغة الشعبوية، التي تنسجم حسب وصفهم مع أمنيات خصوم الانتخابات. أما خارجياً فالأرجح أن خصوم أميركا ما عادوا يراوحون في طور الأماني التنافسية. تدعم هذا الاعتقاد مشاهد كثيرة في العالم. قبل وخلال غزو روسيا لأوكرانيا، وقد أثبت هذا صحة النظرية القائلة بأن العالم بعد أوكرانيا ليس كما قبلها.

فكرة الانكفاء الأميركي، لم تعد حبيسة مراكز الأبحاث ومقالات المحللين، بل نزلت الشارع هادمةً صورة الأميركي البطل المنتصر في كل النهايات، لتصبح هناك احتمالات أخرى. احتمالاتٌ جعلت العالم يترقّبُ بخوف مصيرَ طائرةٍ قد تسقطها الصين قبل هبوطها في تايوان، رغم أنّ هذه الطائرة تُقلُّ بيلوسي، صاحبة ثاني أعلى المناصب في أميركا بعد الرئيس.

صحيح أن بيلوسي زارت العاصمة التايوانية "تايبيه" في نهاية المطاف، لكنّ التبعات لم تنته، وهناك ما يشي بتصعيد قادم. تصعيدٌ نتلمس مدى خطورته في إعلان وزارة الدفاع الصينية عن مشاركتها في مناورات "فوستوك 2022" التي ستستمرُّ من 30 آب/أغسطس الجاري لغاية 5 أيلول/سبتمبر المقبل، بمشاركة روسيا وعلى أراضيها في الشرق الروسي، وقد وُصفت بأنها الأضخم بين الدولتين.

رغم مشاركة دول عديدة أخرى في تلك المناورات، منها الهند وبيلاروسيا وطاجيكستان ومنغوليا وغيرها، إلا أنها تبقى رسالة صينية واضحة بمواجهة الاستفزاز الأميركي. وللعلم فهذه ثاني المناورات العسكرية للصين وروسيا في 2022. أجرى البلدان تدريباً عسكرياً لقاذفات القنابل استمر لساعات قريباً من الحدود اليابانية الكورية الجنوبية في أيار/مايو الماضي خلال زيارة بايدن لطوكيو.

نشرت الصحيفة الأميركيةThe New Republic   استطلاعاً أظهر أن 74% من المستجيبين يرون بأن النظام السياسي الأميركي مهدد، وأن الولايات المتحدة وديمقراطيتها في حالة يرثى لها

ينتظرُ العالم أي تعليق رسميٍّ أميركيٍّ على خبر المناورات، فالجميعُ يدركُ أنها رسالة للأميركيين دون غيرهم، ولعل أكثر المنتظرين توجّساً هم الحلفاء/ التابعون. تأتي بعدهم، وربما قبلهم كل الحركات والجماعات الراديكالية المدرجة على قوائم الإرهاب في خزائن الكونغرس. رد الفعل الوحيد كان تصريح المتحدث باسم الخارجية الأميركية "نيد برايس" بأن دفء العلاقات بين روسيا والصين يتسبب بتقويض الأمن العالمي.

من أجل خاتمة مناسبة لمادتي، تساءلت ما هي آخر أخبار أميركا الآن، في هذه اللحظة؟ كتبتُ على محرك البحث: "أخبار أميركا". دفعتُ بسبابتي عدة صفحاتٍ للأعلى، ثمّ اخترت رابطاً هو الأطول: "في الخامس عشر من نيسان الماضي نشرت الصحيفة الأميركيةThe New Republic   استطلاعاً أظهر أن 74% من المستجيبين يرون بأن النظام السياسي الأميركي مهدد، وأن الولايات المتحدة وديمقراطيتها في حالة يرثى لها".

قال لي أحدهم قبل سنوات: "أميركا تصل دائماً إلى الحلول والطرق الصحيحة، لكن بعد أن تجرب وتستنفد كل الطرق والحلول الخاطئة". عندما انهار الاتحاد السوفييتي، بما يحمل من إمكانيات وموارد اقتصادية هائلة، إضافة إلى ترسانة من الأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية، أدارت أميركا ظهرها لروسيا وتركتها لمصيرها، ولم تبادر إلى أي نوع من التعاون، للمساعدة في تخطي مرحلة انتقالية، كان يمكن أن تؤدي في نهايتها إلى انضمام روسيا للاتحاد الأوروبي، وعانى الشعب الروسي في تلك الفترة ما عاناه. لم تلتفت أميركا بجدية للشأن الروسي، إلا بعد أن بدأت روسيا تمتلك بعض القوة، كان للتجاهل الأميركي الدور الأهم في تسريعه وتناميه. لتبدأ دروة جديدة من الحرب الباردة. حرب هي أشد سخونة، على ما تشير الأحداث من حرب العقود السابقة. لكن أميركا اليوم لا تبدو ذاتها أميركا السابقة، زعيمة وقائدة (المعسكر الغربي)، والتاريخ يقدم العديد من الدروس عن صعود وانهيار الامبراطوريات. وهناك الكثير من المؤشرات التي توحي بأن الزمن الإمبراطوري الأميركي قد يدخل مرحلة من الركود، لتغدو واحدة من الدول العظمى فقط. مؤشراتٌ، ليس أعلاها وصول شخص كترامب ليقودها، ولا استمرار الضعيف المتردد بايدن أدناها.