"أميركا، إيران وداعش" خلطة سحريّة

2024.02.01 | 06:55 دمشق

"أميركا، إيران وداعش" خلطة سحريّة
+A
حجم الخط
-A

يوم الخميس 25 كانون الثاني/يناير 2024، وتحت عنوان "الولايات المتحدة حذرت إيران سراً قبل الهجوم الإرهابي لتنظيم الدولة الإسلامية" نشرت "وول ستريت جورنال" للصحفي الأميركي مايكل جوردان خبراً مطولاً يفيد بأن واشنطن مرّرت معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ إلى طهران بشأن هجوم مزمع خلال الاحتفاء بالذكرى الثالثة لمقتل قاسم سليماني في مدينة كرمان. كان ذلك قبل أسبوع من وقوع انفجارين متزامنين أسفرا عن مقتل أكثر من ثمانين مواطناً إيرانياً.

جاء في التحذير أن تنظيم الدولة الإسلامية في أفغانستان، ما يعرف باسم "داعش خرسان"، هو من يعد للهجوم. الصحيفة نسبت المعلومات إلى مسؤولين أميركيين لم تحدد هويتهم. قالوا إن التنبيه السرّي جاء بعد أن حصلت الولايات المتحدة على معلومات استخبارية مؤكدة تفيد بأن تنظيم داعش خرسان "ISIS K" يخطط للهجوم.

سيبدو الخبر طريفاً وغير عقلاني أو منطقي للوهلة الأولى. طبعاً على الفور نفت وكالة الأنباء الإيرانية نقلاً عن مسؤولين صحة خبر تلقي التحذير. أما الشارع الإيراني المعارض فقد تلقّفه على الفور كخبر مؤكد. قبل ذلك، كان غياب الرسميين الإيرانيين بمن فيهم قادة الحرس الثوري الإيراني (رفاق سليماني) والجيش والشرطة وعائلة سليماني عن مراسم الاحتفاء في كرمان، مثار ضجة إعلامية أوحت بعلم الإيرانيين بالهجوم، إن لم يكن هم من دبّروه فعلاً، وكل هذا قبل خبر الصحيفة الأميركية.

"المعلومات الخاصة المقدمة لإيران حول موقع وتوقيت الهجمات كانت دقيقة وفي الوقت المناسب (قبل أسبوع من العملية)، وكافية لتستخدمها السلطات الإيرانية في تحييد هجوم داعش أو على الأقل تقليل الخسائر البشرية الناجمة عن التفجيرات". إذاً، لماذا لم تتصرف إيران لإفشال الهجوم؟ والسؤال الأهم، ما هو نوع التعاون الأمني الأميركي الإيراني؟

"تمَّ تقديم المعلومات لإيران بناءً على سياسة (واجب التحذير) التي تنتهجها الحكومة الأميركية" أفاد المسؤول الأميركي. ومع ذلك يبقى السؤال الذي يتبادر للذهن على الفور، أن إيران ليست شريكاً ولا حليفاً للولايات المتحدة، بل وأكثر من ذلك، فقد دأب الأميركيون، في الفترة الأخيرة، على اتهام إيران بأنها تقف وراء التصاعد في الهجمات التي تشنّها الميليشيات التابعة لها ضد المصالح والقوات الأميركية في الشرق الأوسط. فلماذا جاء هذا التحذير الأميركي، وإلى ماذا أدى؟ طبعاً أدّى بالنتيجة إلى نجاة المسؤولين الإيرانيين، خاصة قادة الحرس الثوري، بينما وقع المواطنون المدنيون ضحيته.

هجوم كرمان بدا مهيناً لطهران ولصورتها، إلا أن ذلك لن يعني الكثير لقيادةٍ سياسية ودينية ترى أن مشروعية بقائها في السلطة يأتي في المقام الأول وقبل أي اعتبار آخر

لم يوضح المسؤولون الأميركيون القنوات التي أوصلوا عبرها التحذير إلى إيران، نظراً لعدم وجود علاقات ديبلوماسية رسمية بين البلدين، وبطبيعة الحال لم يذكر أحد كيف حصلت المخابرات الأميركية على تلك المعلومات الدقيقة عن الهجوم. مما يوحي بأن الأميركيين يقدمون جزءاً من الحقيقة، والهدف على الأغلب إحراج القيادة الإيرانية. ولكن من يستطيع استبعاد أن تكون إيران قد وصلت للمعلومة حتى قبل الأميركيين؟ باعتبارها، وهذا ما أعتقده شخصياً، من أهم دول المنطقة التي تتعامل مع شبكات الإرهاب، و مع ذلك لم تواجه وتحبط التفجيرات، بل تركتها تحدث في محاولة للاستثمار بها.

بالتأكيد إن هجوم كرمان بدا مهيناً لطهران ولصورتها، إلا أن ذلك لن يعني الكثير لقيادةٍ سياسية ودينية ترى أن مشروعية بقائها في السلطة يأتي في المقام الأول وقبل أي اعتبار آخر، ما دام المواطن الإيراني هو من سيدفع الثمن. غياب الرسميين عن الاحتفال والتفجير يذكرنا بما قيل يوم الهجوم بالطائرات المسيَّرة على احتفال تخريج ضباط الكلية الحربية في سوريا، حيث جرت التفجيرات بعد مغادرة قادة الصف الأول. يومها اعتقد كثيرون أيضاً أن قيادة نظام الأسد كانت تعلم بالهجوم أو ربما هي من نفذته، باعتبارها مع شريكتها إيران تسيطر على منابع الإرهاب في المنطقة.

يبدو أنه كان من المحرج للقيادة الإيرانية أن تعترف بأنها تلقت هذا التحذير ممن يعتبره المتشددون الإيرانيون العدو الأكبر، ولن يفهم هؤلاء مثل هذا التعاون مع الجانب الأميركي. وقد علق مسؤول أميركي بأنه ليس من الواضح وكان مُستغرباً عدم قيام المسؤولين الإيرانيين بإيقاف الهجوم. ومع ذلك وكالة "إيرنا" التي نفى عبرها المسؤولون الإيرانيون تلقي التحذير، نقلت عن مسؤول أمني إيراني قوله "إذا كانت هناك رسالة من أميركا، فإن الهدف منها هو أن تحمي واشنطن نفسها من الرد الإيراني، خاصة بعد الحرب الإسرائيلية على غزّة"!

يجب ألا نستبعد أن تكون أميركا فعلت ما فعلته مع جهة معادية كاستثمار مستقبلي، بهدف تعزيز نوع من الثقة ستستفيد منها يوماً ما في العلاقة مع العدو الحالي

يبقى اللافت تلك الخلطة غير المفهومة في الأعمال الاستخباراتية، التي تتم عادة في مجتمعات المخابرات، ربما في كل دول العالم. فأن تعرف الاستخبارات الأميركية عن هجومٍ لداعش خراسان، سوف يُنفّذ في إيران وتبلغ عدوها الإيراني عن العملية، فإن ذلك يدعو إلى اللا يقين في كل ما يصل للرأي العام من أخبار، بغياب تفاصيلها الخفيّة، وفي ظل شبكة علاقات دولية تتحرك من تحت أنوف المتابعين العاديين، دون أن يعلم هؤلاء يقيناً، حقيقة ما يجري وخلفيّاته. طبعاً في حالتنا هنا، يجب ألا نستبعد أن تكون أميركا فعلت ما فعلته مع جهة معادية كاستثمار مستقبلي، بهدف تعزيز نوع من الثقة ستستفيد منها يوماً ما في العلاقة مع العدو الحالي.

ربما من المفيد هنا القيام ببعض الاستعادة التاريخية لفهم السياسة الخارجية للولايات المتحدة بشكل أفضل. بعد سبعة أشهر من الاستيلاء الدموي للخمير الحمر على السلطة في كمبوديا، وارتكابهم واحدة من أشهر المجازر في القرن العشرين بقيادة بول بوت، تشير وثيقة أميركية مؤرخة في تشرين ثاني/نوفمبر 1975، ، إلى أن هنري كيسنجر قال لوزير الخارجية التايلاندي: "أرجو أن تخبر الكمبوديين بأننا سنكون أصدقاء لهم. إنهم بلطجية قتلة، لكننا لن ندع ذلك يقف عائقاً في طريقنا". لو تمعنّا جيداً في هذه العبارة المنقولة حرفياً عن وزير الخارجية الأميركي، ربما وجدنا أنها يمكن أن تكون بمثابة التكثيف الأشدّ لمجمل سياسات الولايات المتحدة الخارجية.