أصدقاء لا سادة.. دروس في النشأة والبناء

2021.09.13 | 06:07 دمشق

alaytlaf-alswry.png
+A
حجم الخط
-A

"إنّ الناس في الدول النامية يسعون إلى الحصول على المساعدات، ولكن على أساس من الاحترام المتبادل؛ إنهم يريدون أن يكون لهم أصدقاء لا سادة".

تختصر هذه الجمل الثلاثة مسيرة قامة سياسية وعسكرية كان لها مساهمة جليلة في بناء بلده، بل وفي استقلاله وتهيئة أرضية تنموية بدأت من "لا شيء" وانتهت به دولة نووية، رغم ما يُؤخذ عليه من عثرات في آخر حكمه جبرَها باستقالته مع أول هبّة شعبية ضدّه، بخلاف ما نعرف من جنرالات بلادنا العربية!

ولعل مما يُحمَد للمشير "محمد أيوب خان" رئيس باكستان الأسبق أنه سجّل مذكّراته بعد استقالته في كتاب؛ عرض فيه محطات مما عاشه في استقلال باكستان عن الهند وتحررها من الاحتلال البريطاني منتصف القرن العشرين، وفي بناء جيشها خلال تسلّمه قيادة الجيش، وفي بناء مؤسسات الدولة الناشئة بعد تولّيه الرئاسة؛ فهي الفترة الزمنية ذاتها التي شهدت موجة تحرر الدول العربية عن الاستعمار ونشوء دولنا الوطنية وتولّي قيادة أكثرها من العسكريين. لذا فإن كتاب "أصدقاء لا سادة" وهو السيرة الذاتية السياسية لرئيس جمهورية باكستان محمد أيوب خان كما يذكر مترجمه: وإن كان "يعالج أموراً أقرب إلى الشرق الأقصى فإن أشياء كثيرة كأنها قد قصد بها الشرق الأدنى وبلاد العرب من الشرق الأدنى خاصة. إن الأمور التي كانت تشكو منها باكستان – ولا تزال من بعضها – هي الأمور التي كنا نحن دائماً نشكو منها أو من مثلها".

إن بيئتنا الاجتماعية ممزقة بعدد من أسباب الانشقاق، أشدّها أثراً ذلك الذي يفصل بين الطبقات المثقفة تثقيفاً حديثاً غربياً وبين الجماعات المكتفية بالتقليد

وبالنظر في الكتاب فإن أول ما يستوقفنا ويلزمنا قول صاحبه:

"إن المشكلة الأولى لنا في حياتنا الداخلية كانت في أن ننشئ مؤسسات وأجهزة مستقرة للحكم. هذه المؤسسات والأجهزة يجب أن تُصاغ بحيث توافق أسلوب تفكيرنا وتوفق مزاجنا وحاجاتنا".

ولا يخفى على ناظر بصير أنها عين ما تعاني منه مناطق الشمال السوري اليوم في طريقها لبناء نموذج للحكم الرشيد فيها؛ فهي تأخذ في بعض مؤسساتها منظومة قوانين البعث تعدّل فيها تارة وتتركها تارة أخرى، وتتخبط في مؤسسات أخرى من التعليم والقانون لا تعرف ما تأخذ فيها من قوانين الأسد وما تترك لأنه مادة للاستقطاب والتناحر والتنافس؛ فجهة توافق على اعتماد القانون العربي الموحد وأخرى تعارض، ونتوافق على التعديل في المناهج التعليمية ثم نختلف فيما نعدّله لتصبح عندنا مناهج منسوخة عن مناهج الأسد مع تعديلات في مادة هنا وطمس في أخرى.

وفي الحديث عن الاختلاف يستوقفنا قوله في المقدمة كذلك:

 "إن بيئتنا الاجتماعية ممزقة بعدد من أسباب الانشقاق، أشدّها أثراً ذلك الذي يفصل بين الطبقات المثقفة تثقيفاً حديثاً غربياً وبين الجماعات المكتفية بالتقليد".

 وقد لا يخالف أحد في مطابقته ما نعيشه كذلك في ثورتنا اليوم، ليكمل في الحل الذي يراه: "ومن المهم جداً أن يُعاد التفاهم والتعاون بين هذين الفريقين. وهذا شيء يمكن أن يتم بتأويل صحيح لتعاليم الإسلام، ثم بتطبيقها تطبيقاً عاقلاً في حل مشاكلنا الحاضرة. وما لم يحدث ذلك فإن الشُّقة بين الفريقين ستزداد، ثم تعمل على أن تعزل الجماعات الدينية المقلدة عن الطبقات المثقفة تثقيفاً حديثاً غربياً، فيؤدي ذلك إلى ابتعاد الآخرين عن الإسلام". ولعل مراجعة ما حصل إزاء خطبة الشيخ أسامة الرفاعي في اعزاز والتصافف على جبهتَي مؤيديه ومعارضيه وحده يكفي لتأكيد ضرورة ما ذكره؛ والأدهى أن يظن كل فريق أنه يستطيع المضي في بناء الدولة وحده دون الفريق الآخر، فالحوار في الحالة السورية خاصة ضرورة، وليس ترفاً أو أمراً ثانوياً؛ وما ذكره "أيوب" يصلح ضابطاً عاماً وأرضية لأي حوار بين المتخالفين.

ومما ذكره في تأسيسه الجيش الباكستاني الذي تقدّم جيوش عدة دول كبرى وجاء ضمن أقوى 10 جيوش في العالم وفق تصنيف غلوبال فاير باور لعام 2021:

"لما تأسست باكستان كان ثمة عدد كبير من الفرق العسكرية ومن الكشافة ومن المتطوعين كلهم مجمدون على تلك الحدود.. ثم تأكدت أن هؤلاء هم حُماة باكستان التي هي الآن وطنهم كما هي وطني".

فلا يستخفنّ أحد بإمكانية بناء جيش وطني لسوريا الحرّة من فصائل متطوعة مبعثرة إذا توفرت الإرادة لذلك وتحقق انتماء الجيش للوطن، وكأن هذا ما أراده بقوله:

"إن الجيش أداة السياسة وترس الدفاع عن أهل الوطن؛ وإنه لا يمكن أن يكون للجيش وجود إذا كان غريباً عن تفكير أهل الوطن وعن مقتضى إرادتهم".

فلا يمكن الفصل بين الجيش وأهله، ونحن نشهد خللاً ليس بقليل في الصلة بين فصائل الثورة والحاضنة الشعبية، مما يجب تصويبه وتداركه؛ فالتاريخ قديمه وحديثه يشهد أنه لا يمكن لأي حركة ثورية العمل والنجاح بعيداً عن حاضنتها الشعبية؛ فلا بد من تعزيز الثقة بين الحاضنة الشعبية والفصائل العسكرية.

وما نجده مع فصائلنا اليوم وهي تتعثر في بناء الجيش الوطني أكبر بكثير مما كان للجيش الباكستاني:

"وإننا ربما اضطررنا أيضاً إلى تدريب جنودنا في العراء؛ ولكن لا بد لنا من مواجهة جميع الصعاب حرصاً على أن يكون لنا مؤسساتنا الخاصة بنا لتدريب جيشنا منذ الآن ... كنا مضطرين إلى أن ننشئ جيشنا قطعة قطعة وكِسرة كِسرة، وكأنّا نحاول أن نحلّ لغزاً أو أن نُعيد تجميع صورة قد ضاع من أجزائها عدد كبير ... في السنوات الأولى لم نكن نسمح لكل جندي إلا بخمس طلقات في سبيل التدريب كل عام"!

ومَن يقنع من المسلحين بإطلاق 5 طلقات فقط عند أدنى مناسبة اليوم؛ بل يُصرف أضعافها في خلافات وشجارات لأسباب تافهة مع الأسف!

ويعيد الجنرال "أيوب" تأكيد الحافز على إنشاء الجيش وتنظيمه رغم كل تلك الصعوبات والتحديات وقلة الموارد:

"لكنني كنت منذ اللحظة الأولى التي وُلدت فيها باكستان موقناً بشيء واحد؛ هو أن بقاء باكستان كان مرهوناً بإنشاء جيش صحيح التدريب صحيح العُدّة صحيح القيادة".

فهي ثلاثة أركان علينا التنبّه لها ونحن نبني الجيش الوطني ليكون حامياً للوطن لا للقيادة، ويكفينا ما ذقنا من ويلات البناء السيئ في جيش الأسد!

وفي بناء الدولة تكثر الدروس والعبر في الكتاب؛ فمن ذلك:

"كنت أشعر بحسرة كبيرة وأنا أرى "كلكتا" قد ازدهرت بسبب تصدير المواد الخام التي تمتلئ بها باكستان الشرقية ثم لا يوجد معمل واحد للتصنيع ... كانت تلك خطيئتنا نحن".

لنتذكر أكثر من 3 ملايين طفل سوري محروم من التعليم؛ فأين أصبح التعليم في سلّم أولوياتنا ونحن نريد البناء والإعمار؟

وكم من موارد تتصارع عليها الدول في سوريا اليوم ثم لا يُرى آخر لطوابير استلام المساعدات مع الأسف، وما أجمل مواجهة النفوس وما أقساها "كانت تلك خطيئتنا نحن"؛ فلنترك التبرير ولنحاول التدارك والتغيير.

"وأحزنني أن أرى بلداً كثير السكان لا يخرج إلا هذا العدد الضئيل من الرجال الذين يتمتعون بالمستوى العلمي".

لنتذكر أكثر من 3 ملايين طفل سوري محروم من التعليم؛ فأين أصبح التعليم في سلّم أولوياتنا ونحن نريد البناء والإعمار؟ وماذا رصدنا له من مواردنا كأفراد ومنظمات مجتمع مدني، بل ومن فصائل كثير من أفرادها أمّيّون؟!

وإن كان يحزن كذلك نزول توصيف الجنرال للحالة الباكستانية آنذاك علينا في سوريا بقوله:

"وظللت أضرب على هذا الوتر، وتر الحاجة إلى إنشاء مؤسسات التعليم والتدريب؛ لكنّ نفراً من محترفي السياسة وجدوا أن زعزعة ثقة الناس بالحكومة ونشر الشكوك بين الناس كان أكثر فائدة لهم وأقرب ربحاً".

ثم لتكون النتيجة كما قال:

"والذي أثار استغرابي أكثر من كل شيء آخر كان النقص الكبير في الرجال من ذوي المؤهلات الصحيحة للقيادة"؛ فإن كنا نريد الإعمار فلا بد من بناء الكوادر عبر التعليم الوطني الصحيح.

"كان ثمة قلق كثير بين الضباط من جرّاء فيض من الترقيات السريعة المتلاحقة من الرتب الدنيا إلى الرتب العليا، فانعقدت آمال كثيرة على مناصب لم يكن من حق كثيرين أن يرقَوا إليها".

وقد رأينا من ذلك الكثير في الفصائل، ولكن المؤشر الأخطر انتقال ذلك إلى الجانب المدني؛ لا سيما في التعليم والإدارة، حتى وقعنا في فوضى ألقاب ورُتب نجهل منها أكثر مما نعرف!