icon
التغطية الحية

أسماء السوريين وأسماء الترك.. بين "الحداثة" والأصالة

2022.05.13 | 14:58 دمشق

أسماء عرب
+A
حجم الخط
-A

لم تكن تسمية المولود تأخذ حيزا كبيرا من النقاش الأسري لدى أسلافنا فيما يبدو، وإن كان هذا لا ينفي وجودها على نحو أو آخر، لكن الأمر انقلب كثيرا في العقود الماضية، فقد شهد المجتمع السوري، وربما العربي، نزوعا متصاعدا نحو إعطاء أسماء مميزة للمواليد، بحيث أصبحت تسمية الطفل الوليد باسم غير مألوف -ولاسيما في البيئة المحيطة بالفرد- مطلبا يشغل بال الوالدين.

لا يختار الإنسان اسمه، فالوالدان هما من يختاران اسم المولود الذي ربما لا يعجبه هذا الاسم حين يكبر، ولكن الاسم يقترن بصاحبه على نحو لا يمكنه الخروج منه بتاتا، حتى إن حاول تغييره في السجلات الرسمية، إذ يبقى الاسم الأول هو الاسم الذي ينادى به في بيئته الاجتماعية. والاسم علاوة على هذا يعكس التفضيلات الجمالية للوالدين، ومستوى وعيهما الثقافي والفكري، ناهيك طبعا عن البيئة الاجتماعية المحيطة.

 حين خرجنا من سوريا لاجئين إلى تركيا فوجئنا، على غرار الظواهر والقضايا الكثيرة التي فوجئنا بها، أن أسماء الترك والتركيات هي نفسها أسماء أجدادنا وجداتنا، وأن أسماء مثل "قدرية" و"فهمية" و"فتحية" لا تزال حاضرة في المجتمع التركي الذي كنا نستغرب فيه أن نجد حاملات تلك الأسماء يلبسن لباسا عصريا، لا يتناسب والصورة الذهنية التي نحملها عن لباس حاملات تلك الأسماء من جداتنا.

بقيت الأسماء في المجتمع التركي دون أن يمسّها تغيّر كثير، واحد من الأسباب أن اللغة التركية ليست لغة اشتقاقية يسهل استنباط أسماء جديدة منها، وهذا ما يحول دون استثمار جذور الكلمات كما في العربية. ثمة سبب آخر، وهو أن الحداثة التي أدخلت إلى المجتمع التركي عنوة قابلها تمسك شديد بالهوية كان التعلق بالأسماء التقليدية واحدا من جوانبها، إضافة إلى أن الحداثة نفسها لم تكن مقرونة باستعارة الأسماء الأجنبية أو الاستعاضة عن الكلمات الأوروبية بالكلمات العربية.

ولا يمكن في هذا الصدد إغفال ما يمكن أن نطلق عليه نسك العجم، بحيث كان الرجل يفتح القرآن الكريم، ويسمي ابنه أو ابنته بأول كلمة يقرؤها منه تبركا بالقرآن الكريم، لهذا بقيت الأسماء المستمدة من العربية متداولة بين شرائح واسعة من المجتمع التركي، ولن نستغرب إن صادفتنا فتاة تحمل اسم "علينا" (جار ومجرور بالعربية)، فالكلام العربي في الذهنية التركية كلام مقدس حتى لو لم يكن له معنى.

الحديث عن أسمائنا العربية (السورية) حديث طويل، يحتاج إلى وقفات بحثية أكثر من مقالة عجول كهذه. لقد تنوعت أسماؤنا المعاصرة، واختلفت عن أسماء أجدادنا الذين ربما لو بعثوا من قبورهم لاستغربوا أسماء أحفادهم وأبناء أحفادهم

عموما فقد ظلت أسماء الترك تقليدية، منها ما هو ديني يعود بجذوره إلى العربية، ومنها ما هو تركي قومي مستمد من التراث التركي قبل تحول الترك إلى الإسلام، وهو أقل من القسم الأول بكثير. لهذا سنواجه فيما يتصل بالاسم في المجتمع التركي بظاهرة تكرار الأسماء على نحو لا نجده في بلادنا، فقد يصادف المدرس في القاعة الدراسية أكثر من "خديجة" و"فاطمة" و"زينب"... إلخ.

أما النسبة لدى الأتراك فهي وإن كانت أكثر اتساعا من الأسماء، فإنها محدودة أيضا، تأتي في مقدمتها النسبة إلى "يلماز" و"يلدز"، ولكن النسبة لديهم لا تحيل كما هو الأمر لدينا إلى رأسمال اجتماعي أو انتماء ديني أو طائفي. هكذا تأتي النسبة مجردة من أي دلالات لا على انتماء الفرد إلى المدينة أو الريف كما في بلادنا، ولا على الانتماءات الطائفية الضيقة كما في كثير من البلدان العربية.

الحديث عن أسمائنا العربية (السورية) حديث طويل، يحتاج إلى وقفات بحثية أكثر من مقالة عجول كهذه. لقد تنوعت أسماؤنا المعاصرة، واختلفت عن أسماء أجدادنا الذين ربما لو بعثوا من قبورهم لاستغربوا أسماء أحفادهم وأبناء أحفادهم، وهو تنوع يكشف حجم التبدلات الثقافية والفكرية التي عصفت بنا منذ بداية القرن العشرين، وعلى نحو أسرع منذ انتشار وسائل الإعلام، وخصوصا مع ظهور التلفاز والبث الفضائي، بحيث وصلت الأسماء إلى درجة عالية من التنوع، وانتهى الأمر إلى تفضيل الأسماء ذات البنى البسيطة.

تختلف أسماؤنا المعاصرة المكونة من الاسم والنسبة عن أسماء أسلافنا التي كانت تتألف من الاسم واسم الأب والنسبة التي قد تكون مكانية (البغدادي، الحلبي، المكي...)، أو دينية (الحنبلي، الشافعي، الملكي...إلخ)، لكن ليس هذا هو الاختلاف الوحيد، فقد كانت أسماء أسلافنا أسماء دينية في مجملها، يكثر فيها ما حُمّد من الأسماء وما عُبّد، وتشيع فيها أسماء الأنبياء، ولكننا لم نعد نستعملها الآن إلا على نحو قليل، ربما لأنها فقدت ما لها من رمزية نتيجة لكثرة دورانها. وهذا ما كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد حذر منه، حين عارض -كما يروى- الإفراط بتسمية المواليد بأسماء الأنبياء، خشية أن تفقد هيبتها في النفوس. لهذا لم يعد للأسماء الدينية حضور حتى لدى الشرائح التقليدية، أما النخب الفكرية ذات التوجهات العلمانية، فانكفأت على التراث القديم تستثمر ما فيه من إمكانيات وتفتش عن أسماء رمزية بعيدة من التوجهات الدينية، أو عادت إلى الآلهة القديمة تبعثها من معابدها المندثرة على هيئة أشخاص يعيشون بيننا.

ليس هذا فحسب، فكما أشرنا قبل قليل، فإن الأسماء صورة للعالم الرمزي في زمن الآباء، زمن اختيار اسم المولود، فاسم جمال كان شائعا في عهد آبائنا حين كان جمال عبد الناصر الشخصية الأولى في العالم العربي في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، في حين أن اسم "جيفارا" يدل ببساطة على أن والد حامل الاسم أو حاملته ذا توجه يساري أو ماركسي، وأنه عاش في زمن المد الشيوعي. أما أهل المنطقة الشرقية في سوريا، فكان اسم صدام شائعا لديهم، تيمنا بالرئيس العراقي صدام حسين، أو كرها بحافظ الأسد على اعتبار أن "صدام حسين" كان عدوه اللدود. وعلى ذكر حافظ الأسد، فقد تغيرت كنيته من أبي سليمان، على معهود عادة العرب في تسمية الأبناء بأسماء الآباء، إلى باسل الذي كان يعد ليكون خليفة في جمهورية الأسد، والذي استثمر كثير من "الوصوليين" اسمه، فسموا أبناءهم به بعد أن قتل في حادث سير أدى إلى تغير مسار التاريخ السوري وربما العالمي.

لا يقتصر الرأسمال الرمزي للاسم على دلالاته الدينية أو الفكرية أو السياسية، فثمة دلالات أخرى طائفية ودينية، ففي بعض المناطق تغيب فيها كليا أسماء تشكل الآخر المختلف أو الخصم الطائفي. ويضاف إليها ظلال أخرى، فـ"أبو حيدر جوية"، و"أبو يعرب أمن عسكري" تحتل في الذاكرة الجمعية السورية معاني أكثر من كونها مجرد أسماء أو ألقاب لأشخاص لا يريدون كشف هوياتهم الحقيقة، لأنها تشير بوضوح إلى هوية السلطة الطائفية الواضحة.

عبر قرن من الزمن بقيت أسماء الترك محافظة على تقليديتها، على الرغم من أن الحداثة مست كل جوانب الحياة في المجتمع التركي، أما نحن فقد كانت الحداثة لدينا بالانتقال من أسماء الأنبياء والصحابة إلى أسماء آلهة وثّوار ورؤساء. هل يشير هذا إلى أن حداثتنا كانت مجرد قشور فقط؟