أستطيع أن أموت فقط

2021.06.26 | 05:55 دمشق

d364ab2d1b240f8ce1955c32.jpg
+A
حجم الخط
-A

تتنوع قصص عذابات السوريين في سنوات الجمر الأخيرة كما لو أنها حكايات يرويها متخصص في عالم الجريمة حيث لا مشاهد تمر دون قسوة، ولا أبطال في الحكاية سوى الضحايا أما بقية الشخوص فهم منعطفات صغيرة لأحداث الذروة والانتقال إلى الأكثر وحشية حتى السجّان والمحقق والأهل والأصدقاء لا مكان لهم إلا على ضفاف العذاب المهيمن على أرواح الضحايا.

الذين خرجوا من السجون يجمعون على نهاية واحدة لمشاعرهم الآن.. لا شي يمكن أن يكون أقسى مما حصل، ولا عذاب مهما كان سيكون أكثر وحشية مما رأى وسمع وعاش، وهنا ليست وحدها أدوات التعذيب وفنونه من صنعت هذا الهول فقد كان الأثر النفسي هو الأفظع والأكثر فتكاً من الجروح والأمراض والعاهات التي تركها السجّان.. تقول امرأة في رسالة فيديو للذين ما زالوا يعتقدون أن الضحايا يبالغون في رواية حكاياتهم: صدقوا ما نقول فزوجي مات قهراً عندما اغتصبوني أمامه في السجن.. لم يمت من التعذيب.

كان ذعر إطلاق الرصاص المباشر مسيطراً وإن لحظة الموت قادمة لا محالة

حكايات الخائفين من أصوات القصف والرصاص الطائش قد لا يعيريها كثيرون أي اهتمام في نفوس من اعتقدوا أنهم نجوا من الموت لحساب الحياة خصوصاً أولئك الذين يعيشون اليوم في مدن هادئة وغنية ومنظمة، ووسط مجتمعات تحترم خيارات الإنسان في الملبس والأكل والكلام لكنهم يتوقفون فجأة لرواية كوابيسهم: في اليوم الأول لم أستطع النوم كان لا بد من إطفاء أي ضوء في البيت ووضع الوسادة فوق الرأس والاختباء في زاوية السرير.. كان ذعر إطلاق الرصاص المباشر مسيطراً وإن لحظة الموت قادمة لا محالة.

بعد سبع سنوات من هجرته في البحر ليصل إلى أمان أوروبا، واستقراره في السويد ثمة ما يدفع إلى الغصة في حكاية محمود الذي يريد العودة إلى ما يشبه طفولته، وهذه المساحات الشاسعة من الغابات والحقول والبيوت الواسعة لا تستطيع أن تشعره بالفرح، يردد بصوت عالٍ لكل من يلتقيهم من السوريين في الشتات: ليس حنيناً للوطن فهذه المفردة تشعرني بالرهبة بل بالموت لكنني لست سعيداً هنا كل شيء غريب وبارد.

كان الموت قاسماً وقدراً ملحّاً في التعبير عن ذاته منذ انتظار النهاية في سجن صيدنايا إلى بوابات المدن الأوروبية

حكايات الخوف ليست حكراً على من بقوا في الوطن بانتظار مصائر ونهايات غير متوقعة، بل إن هناك نهايات مبكرة يعيشها الذين هربوا إلى عوالم لا تشبههم معتقدين أن لا كوابيس بعد اليوم، ومع هذا الأمان المؤقت بدأت هواجس البحث عن أوطان جديدة تحاكي رغباتهم غير المعلنة في تنشئة أبنائهم وفق مبادئ الشرق، وتفادي خسارتهم في بلاد الحرية الواسعة، وها هم يتسللون بجوازاتهم الجديدة إلى القاهرة وإسطنبول والخرطوم ليعيدوا ترتيب حياتهم بانتظار رحلة أخرى ربما إلى مدن يعتقدون أنها آخر المطاف.

يروي أحد الناجين من أوروبا الساكنة الباردة حكاية موت مكررة مما حصل معه ورأى وسمع: هناك أخلاق جديدة ومؤامرة مدروسة لسرقة أبنائنا وإفسادهم، وأما المرأة فلها كامل الحرية في الخروج من البيت والعودة متى تشاء دون إذن زوجها، وكذلك البنت عندما تبلغ سن البلوغ ليس لأحد سلطة عليها. لذلك قررت الهروب إلى بلد شرقي يشبه أخلاقنا وعاداتنا.

منذ أيام شاهدت واستمعت مجدداً لرواية عمر الشغري عن سجنه ثم رحلته في العلاج والهجرة، وفي كل انتقال جديد للرواية من مكان إلى آخر كان الموت قاسماً وقدراً ملحّاً في التعبير عن ذاته منذ انتظار النهاية في سجن صيدنايا إلى بوابات المدن الأوروبية، ولكن عبارة واحدة ظلت تضرب عقلي وروحي من كل الرواية وهو يلخص رغباته لحظة الموت ولحظة النجاة: أستطيع أن أموت فقط.