أبو فستوك وأم فستوك

2019.11.04 | 14:55 دمشق

deb16b7f5d3659a4c3827cbfc1e318ae.jpg
+A
حجم الخط
-A

يستطيع القارئُ الفطين أن يأخذَ من سيرة المُخْبِر الوضيع أبي فستوك فكرةً شاملة عن تركيبة النظام المخابراتي الذي أسسه حافظُ الأسد ولَغَّمَهُ لينفجر بسوريا ويدمرها بمجرد ما يفكر السوريون بالإطاحة به، ويأخذ، كذلك، فكرةً عن الوسط الأدبي السوري، وكيف تَلَوَّثَ هذا الوسط وتَرَدَّى إلى حد أن المُخْبِر أبا فستوك -ما غيره- صار ذا شأن في اتحاد الكتاب العرب، يخشاه الجميع، وبضمنهم الكُتَّابُ الذين (عليهم القيمة)، ويحسبون له ألف حساب. (وهذا لا يعني أن كاتب هذه السيرة ذكي إلى حد امتلاك المقدرة على رسم هذا الجو الدلالي، وصناعة هذه الإسقاطات القوية، وإنما القصةُ مكشوفة أصلاً، وإسقاطاتها موجودةٌ فيها تماشياً مع المبدأ الشعبي القائل: دود الخَلّ منه وفيه).

قرأ الأديب السوري الصديق "سين سين" ثلاثَ الحلقاتِ السابقاتِ من سيرة المخبر أبي فستوك، فكتب لي على الخاص: (اعلمْ -يا أبا الخطوب- أن هذا الـ أبو فستوك يصاحبُ الآن "أم فستوك"، وهي أديبة مُخبرة تتظاهرُ بأنها مُعَارِضة! وهذه الصحبة، أو "الزيجة الأمنية"، فَقَّسَتْ أسراباً من الفساتيك والفستوكات الذين يطيب لهم إيذاؤنا والعربدةُ علينا نحن الأدباء الذين نعيش في الداخل، منذ سنة 2011، وحتى ساعة إرسال هذه الرسالة).

لم أجد في نص رسالة صديقي "سين سين" المنشور أعلاه شيئاً جديداً، مع الأسف، سوى تسميتِه إيايَ أبا الخطوب! فالخطبُ هو الكارثة أو النائبة أو الملمة، وقد أتى الشاعر إبراهيم اليازجي على ذكر "الخَطْبِ" قبل أكثر مئة عام في بيتٍ شهيرٍ يقول:
تنبهوا واستفيقوا أيها العربُ           فقد طَمَى الخَطْبُ حتى غاصتِ الرُكَبُ..

(ملاحظة: لستُ معجباً بهذا البيت، ولا بقسم "الأدب القومي" في كتاب الثالث الثانوي، وأزعم أن الخطب هو العرب أنفسهم، أو مَن يأمل منهم أن يستفيقوا.. إلخ).

أقول: لم أرَ جديداً في رسالة صديقي "سين سين"، وأستطيع أن أفند ما جاء فيها حالاً.. لقد اعتاد أبو فستوك، منذ أن حَلَّتْ رِحَالُه بيننا في إدلب، على الجري وراء الأديبات قليلات الموهبة، بغيةَ أن يضم واحدةً منهنَّ أو أكثر إلى فريقه الأمني، فالنساء -بحسب منخاره الأمني الشبيه الحساس- أقدرُ من الرجال على انتزاع الأسرار من الأدباء، وخصوصاً نحن أدباء إدلب التعبانين الـ (مهرهرين) المحرومين من مصادقة النساء إلى حد أصبحنا معه ننظرُ إلى أية امرأة تقع تحت أبصارنا فنراها أجمل من "تحية كاريوكا" حينما كانت قادرة على انتزاع الإعجاب من أديب ومستشرق مهم مثل الأستاذ إدوار سعيد الذي كتب عنها مقالة طويلة.     

لقد اعتاد أبو فستوك، منذ أن حَلَّتْ رِحَالُه بيننا في إدلب، على الجري وراء الأديبات قليلات الموهبة، بغيةَ أن يضم واحدةً منهنَّ أو أكثر إلى فريقه الأمني

في البداية، كانت الوسيلة الوحيدة التي يستخدمها أبو فستوك في جذب الأديبات الصاعدات هي إقامةُ الأمسيات الأدبية لهن، وكان هذا بالنسبة لمعظمهن خيراً وبركة، فهل كانت الواحدة من هاتيك البنيات تتصورُ، وهي التي لم تكد أن تفقس عنها البيضة (أدبياً)، أن تُلقي بعضاً من نصوصها العامرة بالمشكلات اللغوية والنحوية والبنائية من على المنبر الذي يقف عليه كبار كتاب سوريا ويلقون إبداعاتهم العظيمة، ثم يصفق لها الجمهور بحرارة؟

وبعدما تخطو الأديبة المسكينة خطوتين أو ثلاثاً باتجاه ساحة الجاذبية الخاصة بأبي فستوك، يُسَرِّبُ لها فكرة عن علاقته الوطيدة بالرئيس الأزلي لاتحاد الكتاب العرب، وكونه على صداقة قوية (وزمالة) مع عُضْوِ المكتب التنفيذي المتخصص بالتواصل مع الشعب الأمنية الكبرى في دمشق، ويمون على معظم ضباط المخابرات في إدلب، وبالأخص رئيس فرع الأمن العسكري الذي أمر بوضع اسمه بين أسماء كبار الضيوف الذين يدخلون لزيارته عبر الباب الفرعي.

في مرحلة ثالثة يَعرض أبو فستوك على الأديبة الشابة أن يطبع لها نتاجها في دار نشر يمتلكها أحدُ أصدقائه في الشام، ولكن هذا يتطلب أن يمر هو -أبو فستوك- على النصوص ويدققها (على أساس أنه معلم في الإملاء والنحو والصرف وأسرار البلاغة، حاشاكم!)، فتذعن المسكينة مدفوعة بالرغبة بأن يكون لديها كتاب (أبو فستوك يسميه: المولود الأدبي!)، وتفرح فرحاً لا مزيد عليه إذ تتخيل اسمَها منقوشاً على الغلاف، متصدراً رفوف المكتبات العامة والخاصة، والناس يشترونه ويقرؤونه بنهم، ليستفيدوا من الحكم والعبر الموجودة فيه! ويزيدها أبو فستوك من القصيد بيتين إذ يقول لها:

- وكلها شهران أو ثلاثة وتكون قريحتُك قد أبدعَتْ ما يكفي لكتاب ثانٍ، فندققه ونطبعه عند صديقي الناشر نفسه، ونذهب أنا وأنت "سكارسا" إلى اتحاد الكتاب العرب بدمشق، ونقدم طلب انتساب باسمكِ بعدما حققتِ الشرط الأساسي للانتساب وهو وجود كتابين مطبوعين، ويأتي دوري أنا لأجعلك عضواً فيه، على السريع، إذ لَعَلّي نسيتُ أن أخبرك أن كل الشباب في المكتب التنفيذي في اتحاد الكتاب العرب بدمشق، إضافة إلى الرئيس، يحبونني، ويحلفون باسمي، وينتظرون فرصة سانحة ليقدموا لي أية خدمة تقع تحت أيديهم!

ذات مرة اكتشفت إحدى الأديبات الشابات أن أبا فستوك قد احتال عليها، فقررت أن تُخْرِجَ الموضوع إلى العلن

ذات مرة اكتشفت إحدى الأديبات الشابات أن أبا فستوك قد احتال عليها، فقررت أن تُخْرِجَ الموضوع إلى العلن. راحت تحكي لكل من يلتقيها أن أبا فستوك أخذ منها سلفة مقدارها (كذا) ليرة سورية، ووعدها أن يُصْدِرَ مجموعتها القصصية الأولى في دار النشر الخاصة بصديقه في موعد أقصاه شهر أيار.. ولدى حلول الموعد أخبرها أن موافقة الرقابة لم تأت بعد، وفي آب ذَكَّرَتْهُ بالموضوع، فغمغم وهمهم وقال: أعطيني فرصة لأرى، وفي شهر تشرين الثاني سألته عنها فحاص ولاص (وحك استه كالتغلبي) وأجرى مكالمة وهمية مع شخص ما، وقال له متصنعاً الدهشة: ماذا تقول؟ أيدٍ خفية تلعب بالموضوع؟ مجموعة فلانة القصصية رفضت من الرقابة؟ ماذا أيضا؟ هناك أديب إدلبي كبير اتصل بمسؤول الرقابة وطلب منه عدم الموافقة؟ يا عيب الشوم على هكذا أدباء كبار. طيب طيب. شكراً. أنا أتصرف.    

وبقيت الأمور على هذا المنوال أكثر من سنة، والكذب عليها جار على قدم وساق، حتى (طَقَّت الشغلة في رأسها) وسافرت إلى دمشق ومعها نسخة ثانية من مجموعتها القصصية، وصعدت إلى دائرة الرقابة في وزارة الإعلام، وسألت عن مخطوطتها ولماذا رفضت رقابياً؟ ووقتها اكتشفت أن أبا فستوك لم يقدم أية مخطوطة باسمها على الإطلاق.. وأعلمها موظف الرقابة، بعدما قلب بعض أوراق المجموعة القصصية بأنه يستحيل أن ترفض مجموعة كهذه، وأكد لها أنها تعرضت للاحتيال.

(للحديث بقية)