icon
التغطية الحية

آليات الوقاية من الانقلاب وتحديات التجربة التاريخية

2023.09.04 | 06:14 دمشق

انقلاب
صدام حسين وأحمد البكر وحافظ الأسد
+A
حجم الخط
-A

رأت ثيدا سكوكبول في كتابها المهم "الدول والثورات الاجتماعية"، ألا أهمية لأيِّ مؤسسة في الحفاظ على بقاء النظام كأهمية المؤسسة العسكرية، وبالتالي، ثمّة أولوية لدى النخبة الحاكمة، في الحفاظ على الولاء المطلق لضباط القوات المسلحة. وجرى ذلك الحفاظ على النظام الحاكم في سياق المشرق العربي عمومًا، وسورية خصوصًا، إلى ما سمّاه الباحثون ظهور "آليات الوقاية من الانقلاب Coup-Proofing"، والتي تعني "مجموعة الإجراءات التي يقوم بها النظام لمنع وقوع الانقلابات العسكرية".

وتُحسَر هذه الآليات التي شخصها الباحثون في التالي:

  • أولًا، التحكم بالجيش عبر خلق حالة توزان وهيمنة على القوات المسلحة، فعندما يكون احتمال الانقلاب كبيرًا، يتّجه النظام، المُمثَّل بالزعيم، نَحوَ تقسيم قواته العسكرية إلى جماعات متنافسة، مثل: (مثل: الحرس الرئاسي أو الجمهوري، والمجموعات شبه العسكرية، وهيئات الاستخبارات المدنية والعسكرية)، التي تهدف إلى إحباط قدرة سِلْك الضباط على تنسيق عمل انقلابي ضد النظام.
  • ثانيًا، هذه القوات الموازية، يُكتَسَب ولاؤها عبر التسليح والتدريب العالي، ورفع مستويات الإنفاق، وتوزيع مكاسب مادية سخية عليها.
  • ثالثًا، يتخذ النظام إجراءات شبه منتظمة في تدوير المواقع العسكرية للضباط، لمنعهم من تشكيل عصبة أو تكتُّل داخل أيٍّ من وحداتهم العسكرية/ الأمنية.
  • رابعًا، تجري عمليات مراقبة وتجسس على وحدات الجيش للتصدّي لأي منافس يظهر داخل المؤسسة، بالإضافة إلى منع تدفق المعلومات داخل أجهزة النظام العسكرية، فهي حصرًا تتدفق باتجاه الزعيم.
  • خامسًا، في حالات سوريا والعراق على وجه التحديد، بنى الضباط الذين استقرت لهم أنظمة الحكم "جيوشًا عقائدية"، تقوم على الولاء المطلق لحزب البعث الحاكم، عبر تلقين الضباط في الكليات العسكرية، الأيديولوجيا التي يقوم عليها النظام.
  • سادسًا، الاستثمار في شبكة القرابات، والهويات الطائفية والإثنية، لكسب الولاءات داخل القوات المسلحة وخارجها.

مثلت هذه الآليات الشبكية، داخل المكونات الاجتماعية والأجهزة العسكرية/ الأمنية، ركيزة أساسية في الحد من وقوع الانقلابات، والحفاظ على الحكم لأطول فترة ممكنة. وصحيح أنها مجتمعةً جزء من مكوِّنات النظام لكنها لا تتصل ببعضها البعض، بل تتصل مباشرةً بالزعيم والدوائر المقربة من النظام، فهي تتخذ شكل آلية "المحور والمكبح". ما جعل هذه الشبكات والأجهزة، رديفة لأجهزة الدولة، أي تعمل وكأنها دولة، ممثلةً عودة إلى منظومة الحرس البريتوري في أجهزة الدولة العربية.

  • سابعًا، أسهم خنق الحياة السياسية، في منع ولادة الضباط المؤدلجين والمسيّسين، الذين يندفعون إلى الانقلابات عادةً.
  • ثامنًا، اتساع قاعدة القوات المسلحة، إذ أصبحت أكبر حجمًا وأشد قوة وتنوعًا، ما يجعل من تحريكها أمرًا صعبًا مقارنة بالمراحل السابقة.
  • تاسعًا، يقدم النظام للجيش امتيازات اقتصادية، لإغراقه بالمصالح المادية المباشرة، ولحَرفِ انتباهه عن مصالح أخرى، كالوصول إلى السّلطة، وتتخذ عدد من البلدان هذه الخطوات، عبر السماح بإنشاء شركات وصناعات خاصة بالمؤسسة العسكرية.

حصرت آليات الوقاية من الانقلاب في العقود الأخيرة التي استقرت فيها أنظمة الحكم العربية ولم يُعثَر على آلية أو سبب استثنائي فيها لانحسار الظاهرة

في المقابل، لاحظ مهران كامرافا، أن الحالات التي تمتعت بإغداق الجيش بالمكتسبات الاقتصادية، وبحيز من الاستقلالية لضباطها، مثل: إدخال معدات عسكرية حديثة، استقلالية في التجنيد والترقيات، وتدريب متقدم، لم يترجم إلى عدم تسييس وانسحاب إلى الثكنة، وزيادة خضوعه لسيطرة النظام؛ بل على العكس من ذلك، قادها إلى زيادة إمكانية التدخل في العملية السياسية، والبحث المستمر عن مكتسبات مادية أكبر. في اللحظة التي يغرق فيها جيش ما في العملية الاقتصادية تحديدًا، سيجد النظام السلطوي، أو حتى النخب الديمقراطية - إذا ما وقع تحول ديمقراطي - أنّ انتشال الجيش من الحيز السياسي والاقتصادي، أحد أكبر التحديات والعوائق في وجه النخب، لإصلاح العلاقات المدنية – العسكرية ديمقراطيًا، وأكبر تحدٍ للسُّلطويّ في الهيمنة على الجيش.

تقع إشكالية هذه الأدبيات في أنها:

أولًا، حصرت آليات الوقاية من الانقلاب في العقود الأخيرة التي استقرت فيها أنظمة الحكم العربية، ولم يُعثَر على آلية أو سبب استثنائي فيها لانحسار الظاهرة، بل كلها مسببات مشتركة مع سوريا وبلدان أخرى، وهي أيضًا متممة لبعضها البعض، وهذا طبيعي لكونها ظاهرة عامة لا استثنائية. وربما تسهم في فهم ترسخ دكتاتوريات ما قبل هذه المراحل أيضًا، أي قبل السبعينيات، كديكتاتورية أديب الشيشكلي في سوريا (1949-1954)، الضابط الوحيد الذي استقرت له مقاليد السلطة لأطول فترة زمنية ما قبل حافظ الأسد، كما بينا في مقالات سابقة من على هذه المنصة. لكنها لا تفسر انحسار الظاهرة الانقلابية في سوريا بين عامي 1954 و1958، ولا تجيب عن سؤال: كيف تصدّر المدنيون الحكم وليس الجيش؟

ثانيًا، بعض تلك الدراسات خلطت بين انحسار الانقلابات العسكرية، وبين أسباب انسحاب الجيوش من السياسة (زولتان باراني مثلًا)، وهنا ثمة بَوْنٌ شاسع بينهما، فضبط الجيش وخلق آليات لمنعه من الانقلاب، لا يعني أنّ الجيش خارج السياسة، فغالبًا الذي قام بصناعة آليات منع الانقلاب، هو ضابط صعد إلى السلطة عبر الانقلاب العسكري، وأحاط نظامه بضباط لإدارة الحكم سويًا، وبالتالي ما زال الجيش في السياسة وهو الذي يحكم، لكن تمّ لجم بقيّة ضباط الجيش من القيام بانقلابٍ ضدهم.

ثالثًا، الفجوة المعرفية الأهم - وهي مبنيّة على الإشكال السابق - الذي وقعت فيه هذه الدراسات، وعلى وجه التحديد أبحاث: مايكل ماكارا، جيمس كوينليفان، آرون بلكين، إيفان شوفر، زولتان باراني، نظروا للأسباب وآليات انحسار الانقلابات على أنها حالة مخلوقة، فهي بتعريف كوينليفان، كما أشرنا أعلاه، "مجموعة إجراءات يتخذها النظام"، أي ثمة من يقوم بصناعة هذه الآليات، أو سلطة عليا قادرة على التحكم بجميع الأطراف.

هذا صحيح على نظام الحكم في سوريا مع بداية السبعينيات، لكنه تم تجاهل حقبة الخمسينيات في سوريا، أي مرحلة الغليان السياسي، والأدلجة في صفوف القوات المسلحة السورية بعدسة دقيقة، فالمرحلة 1954-1958 لم تشهد نظامًا سلطويًا يسعى إلى شرذمة الجيش، للحفاظ على حكمه، بل شَهِدَت وجود تكتلات عسكرية تتصارع فيما بينها، دون زعيمٍ يقوم بخلق وإشعال التنافس بين أجنحة الجيش، وبالتالي تتفرّد هذه المرحلة بالاستثناء العسكري في تاريخ سوريا، وربما تاريخ بلدان أخرى. ويحق للباحث التساؤل، هل نشأت هذه التكتلات بمحض الصدفة؟ وكيف بزغت إذا ما كان مجتمع الأكاديميين قد رأى أن التنافس في صفوف الجيش يُخلق من سلطة عليا تتغذّى على التنافر في القوات المسلحة؟ وإذا ما افترضنا أنها صدفة اعتباطية، أو وليدة ظروفها السياسية، فكيف أدارت صراعاتها إذًا؟ وهل انتصر فيها أحد على الآخر؟ وقد أجبت على هذه التساؤلات في سلسلة "الجيش السوري قبل الوحدة" التي أطلقناها هنا، حيث قدمت قراءة سرديّة وتحليليّة للانقلابات العسكرية في سوريا، واختبرت مدى واقعية وفاعلية تلك الآليات التي توصَّل لها الباحثون.