«شبّيحة حلب» في كتاب!

2019.10.27 | 16:48 دمشق

halab(1).jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يمر أربعون يوماً على وفاة الصحافي المصري ماجدي البسيوني، بالأمس، إلا وكان صاحبه قد دخل دفاتر النسيان، باستثناء إحياء ذكراه عائلياً في قريته الصغيرة قرب دمياط. منذ حوالي الشهر أقامت نقابة الصحافيين المصريين تأبيناً لماجدي في عاصمة بلده، ونظمت مديرية ثقافة اللاذقية تأبيناً آخر له في «دار الأسد» الذي انحاز إليه. كانت الثورة السورية فرصة حقيقية للبسيوني. ففضلاً عن انتمائه إلى الناصرية التي تزداد متحفيتها يوماً بعد يوم، كان عضواً في جناح من هذا التيار جمع بين تصلب الشعارات العروبية المبدئية وبين الانتهازية العملية، ونتيجة لذلك عانى هذا التوجه بالذات من آثار الربيع العربي، مع غياب زبائن ومستثمرين «دفيعة» من أمثال الزعيم الليبي معمر القذافي.

رغم ذلك استمر «الحزب العربي الديمقراطي الناصري» في الوجود، بمخلصيه ومرتزقته على حد سواء. واستمرت جريدته «العربي» في الصدور، وإن أخذت تتعثر حتى توقفت، وكان البسيوني رئيس تحريرها. ومع اندلاع الاحتجاجات في سورية كتب فيها، في نيسان 2011، مقالاً سيحدد مساره اللاحق، سياسياً وأسلوبياً، بعنوان «إلا سورية يا أولاد الأفاعي!».

توالت مقالات رئيس التحرير في هذا الاتجاه، وأنشأ فيها ملفاً مستمراً بعنوان «من القاهرة هنا دمشق»، العاصمة التي زارها أكثر من مرة ضمن وفود داعمة للنظام ومهاجمة لحزب «الاتحاد الاشتراكي» الناصري المعارض أحد أركان «هيئة التنسيق». ولم يكن هذا بعيداً عن شرخٍ قسَم الناصريين في العالم العربي كلهم بين من أصر على متابعة نهج «المقاومة» من الباب الإيراني وبين من أيد ثورات الشعوب وحراكها.

ظل جهد البسيوني دون جدوى عملياً حتى التقطته «الأمانة العامة للثوابت الوطنية في سورية»، التي تصر على تعريف نفسها بأنها «منظمة مجتمع مدني» بمناسبة ودون مناسبة، رغم أنها تؤيد الجيش وصواريخه ومروحياته وبراميله. كانت «الأمانة» قد أنشئت في عام 2013، على يد ناشطين حلبيين أساساً، نزحوا إلى اللاذقية نتيجة صعوبات العيش في مدينتهم وقتها، خطراً على الحياة وتردياً في الخدمات. وكان أن تواصلوا مع البسيوني ودعوه إلى زيارتهم.

فسجّل أحاديثه معهم ومشاهداته في كتاب بعنوان «القلعة: حلب من الحصار إلى الانتصار»

وصل الصحافي إلى الساحل السوري، وتنقل في قرى جبلة حيث شاهد صور القتلى على جدران بيوتهم المتواضعة، ثم استنتج أن الغنيمة في مكان آخر فشد الرحال إلى حلب حيث التقى كل فاعلياتها المدنية والعسكرية والتشبيحية المحضة، فسجّل أحاديثه معهم ومشاهداته في كتاب بعنوان «القلعة: حلب من الحصار إلى الانتصار»، صدر عام 2018، في 550 صفحة، عن دار الشرق التي يملكها نبيل طعمة، وهو «رجل أعمال» تحب الشبهات أن تحوم حوله، وتكاد أن تطبق عليه مع حملة «مكافحة الفساد» وتشليح التجار القائمة مؤخراً.

الكتاب بتقديم الدكتور نضال الصالح، وكان وقتها رئيساً لاتحاد الكتاب العرب الذي مقرّه دمشق، ويكيل المدائح دون حساب للبسيوني الذي، بحسب المقدمة، «يسفح روحه ومبادئه وقيمه» في الكتاب الذي هو «أدب كما هو تاريخ، وإبداع كما هو توثيق».

بالفعل، تصيب هذه الجمل جوهر الكتاب الذي ينتمي إلى أرومة كتابية من تراجم الوجهاء والأعيان والمتنفذين الأحياء، مما يتطلب من المؤلف أن يسفح ما ذكرته المقدمة حقاً من مبادئه وقيمه. وهو، فوق ذلك، لا يتورع عن بذل وابتذال مصريته وذكريات الوحدة السابقة بين البلدين في الخمسينيات وجمال عبد الناصر نفسه، للإعلاء من شأن هذا وتمجيد ذاك ممن يوثق «بطولاتهم» بمزيج عجول من الحقائق و«الإبداع» بالأكاذيب التي يوردها بطلاقة لا يحسد عليها.

الكتاب مفيد رغم ذلك. فتحت ركام خيالات مؤلفه وشطحاته يمكن تلمس خريطة حلب النظام بين أعوام 2013 ونهاية 2016؛ القيادات العسكرية والأمنية والحزبية والمدنية، المشايخ والتجار والفنانون والأطباء والمحامون المؤيدون، آل بري ولواء القدس ولواء الباقر والحرس القومي العربي، حامية قلعة حلب وطاقم سجنها المركزي وضباط مطار كويرس، أهالي قتلى النظام وقصص جرحاه. كل ذلك مما يمكن اعتماده كأحد مصادر كتابة التاريخ من الخندق الآخر، بعد تخليصه من التهويل والتلميع.

لكن يبدو أن «الحاوي» المصري لم يأبه كثيراً لمن سيقرأ كتابه التجاري كاملاً، بالنظر إلى أن كلاً من الممدوحين فيه سيعنى بالصفحات التي تخصّه فقط. ونتيجة لذلك فقد أورد في الكتاب مقاطع مكررة، وأخرى مفككة أو مثقّبة بانتظار استكمال بعض المعلومات التي أهمل الحصول عليها وتدوينها في نهاية الأمر. كما بدا كل من ذكره، في الفصل الخاص به، وكأنه وحده محور «مقاومة» حلب و«صمودها» خلال تلك السنوات!

الزاوية الأخرى التي يمكن النظر فيها إلى الكتاب هي أنه نموذج كامل عن «تزوير التاريخ»، وهو الأمر الذي بات يخشاه الكثيرون من ناشطي الثورة المحبطين الذين أخذوا يتحدثون عن «حرب الروايات».

لا فرق هنا بين مقاتلي داعش والجيش الحر والفصائل الإسلامية، فكلهم في عرف المؤلف من الإخوان المسلمين

الكتاب مطَمْئنٌ في هذه الناحية، فهو لا يقدم رواية أشد تماسكاً من ترهات التلفزيونات الرسمية للنظام. بل ليس فيه أي أثر لاحتجاجات شعبية أو «مطالب محقة» من أي نوع كما يقال أحياناً لتغليف الانحياز. فمعدل دخل الفرد السوري قبل «الأزمة» كان 7500 $ سنوياً، مما دفع الزعيم التركي رجب طيب إردوغان إلى التقرب من بشار الأسد لتتسنى له مراقبة الوضع عن كثب ووضع أسس المؤامرة وخطة تنفيذها. وحالما تم ذلك جرى تحريك بعض خونة الداخل بشرائهم بالمال، واستدعاء شياطين متحركة على هيئة بشر من شتى أصقاع الأرض. لا فرق هنا بين مقاتلي داعش والجيش الحر والفصائل الإسلامية، فكلهم في عرف المؤلف من الإخوان المسلمين. حقدت هذه المجاميع من المرتزقة والمهابيل والإرهابيين على حلب لأنها تأخرت سنة عن الاستجابة لما «يسمى بالثورة»، ولهذا قرر «المشغّلون»، من الأجانب والعرب، تدمير هذه المدينة؛ مشافٍ ومدارس ومعامل ومكتبات، بشكل مدروس. لكن صمود أهلها في وجه هذا المخطط، وتحملهم القذائف وانقطاع الكهرباء ومواد التدفئة والماء، قلب المعادلة!

إنها نسخة عن واحدة من أردأ الروايات الشعبية عن «الحرب» بين مؤيدي النظام في «حلب الغربية». بل إنها تتفوق على ما سواها بإنكار وجود أي عائلة في الضفة الأخرى من حلب التي حوصرت أخيراً وهُجِّرت. مرة وحيدة فقط، عندما يطنب المؤلف في شرح مآثر اللواء زيد صالح، ضابط الحرس الجمهوري رئيس اللجنة الأمنية والعسكرية في حلب وقتها، نكتشف وجود سكان عندما يقول اللواء لمحدثه المصري إن قوات الجيش فتحت «معابر إنسانية» لكن «الجماعات المسلحة منعت المدنيين من الخروج من المناطق الشرقية واحتموا بهم»!

نُظِّمت للكتاب حفلات توقيع وصار مؤلفه ضيفاً متكرر الحضور على وسائل الإعلام الرسمية، فأتبعه بآخر أكبر امتد فيه إلى مدن أخرى غير حلب، وإن ظلت المركز، أسماه «المقاومة حكاية وطن». ومثل الأول سعى لتوقيعه على امتداد البلاد، في «مكتبة الأسد الوطنية» بدمشق بتقديم ورعاية اللواء بهجت سليمان، الضابط السابق في المخابرات، وفي اللاذقية وطرطوس وحلب. لكن سرطان الكبد فاجأ الصحافي وهو في أوج نشاطه في عامه الثاني والستين. اكتشف المرض بعدما أُعلن عن إصابة أسماء الأسد به بأشهر، ولما بشّرت «السيدة الأولى» محبيها بشفائها قال ماجدي إنه سيتخذها قدوة وسينجو أيضاً، إلا أن ذلك لم يحدث.