من هونغ كونغ إلى مينسك فدمشق: الحرية ممنوعة ولكل عصابة فيصل مقدادها

ثورات ضد الأنظمة الحاكمة في سوريا وبيلاروسيا وهونغ كونغ

2021.10.01 | 07:13 دمشق

تثور ضد فساد حكومتك، فتأتي قوة عظمى لقمعك وقتلك وإبادة كل من يشاركك المطالبة بحق بلدك في التحرر والتطور، إنه عهد جديد يرعاه كل من "الإمبراطور" الصيني و"القيصر" الروسي، وأتباعهما كالولي "الفقيه"، و"سيد الوطن"..

ولسوء حظ السوريين فقد ابتدأ هذا العهد مع انطلاقة ثورتهم واستمر باستمرارها، وها هو يلاحقهم خارج بلدهم ويلاحق كل الشعوب التي تريد لأوطانها مستقبلاً أفضل.

وفي مجلس الأمن، لا يبدو خطاب وزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد مختلفاً عن سلفه وليد المعلم في شيء، لقد مات "المعلم" وهو يردد جملتين اثنتين: المؤامرة على سوريا، محاربة الإرهاب، وها هو وريثه "المقداد" يرث ذات الجملتين ويعيدهما على مسامع المجتمع الدولي بلا كلل أو ملل، محرضاً على استمرار قتل السوريين، مدعوماً من الإمبراطور والقيصر والمرشد الأعلى أيضاً، ولا يزال هذا المجتمع الدولي يستقبل هؤلاء المجرمين ويتيح لهم المنابر العالمية التي يدعون من خلالها لقتل شعوبهم.

إسرائيل وحدها لا تكفي

حتى وقت قريب، وربما إلى الآن، ما يزال معظم السوريين يعتقدون أن العالم برمته وقف ويقف ضدهم وضد ثورتهم من أجل إسرائيل وليس لأي سبب آخر، تلك وجهة نظر صحيحة تماماً ولا جدال فيها، فلا بد أن قرار إطالة أمد المعاناة السورية، وقرار تحويل القضية السورية إلى مأساة، أمر يخدم المشروع الإسرائيلي، ولكن أحداثاً أخرى شهدها العالم مؤخراً في مناطق جغرافية بعيدة تماماً عن سوريا تدفعنا للتشكيك في ذلك الاستنتاج والبحث عن تفسير جديد للحالة السورية.

ثمة مثالان صارخان لمنطق قمع الثورات بعيداً عن مصلحة إسرائيل، أولهما الثورة التي اندلعت في هونغ كونغ منذ أكثر من عام ونصف وتدخلت الصين حينها بكامل ثقلها لقمعها بل ولمنع أي تمرد أو احتجاج شعبي يؤثر على هيمنتها على هونغ كونغ، وثانيهما ثورة روسيا البيضاء "بيلاروسيا"، والتي تدخل بوتين مبكراً لإعطاء الإيعاز بإنهائها وقتلها في مهدها.

الهونغكونغيون يواجهون بكين

كل من تابع المظاهرات التي اندلعت في هونغ كونغ نهايات العام 2019 إلى منتصف العام 2020، لم يكن ليصدق أن ثورة كتلك يمكن أن تخبو وتنطفئ، ذلك أن المطالبة بالحرية والكرامة والتخلص من التبعية للصين كانت العنوان البارز لثورة هونغ كونغ، وتلك مطالب لا يمكن لأحد التشكيك بوطنيتها، كما أن طرق التعبير السلمية الراقية عن تلك المطالب أكسبت المتظاهرين مزيداً من المصداقية والوطنية، إلا أن "وليد المعلم" أو "فيصل مقداد" هونغ كونغ لم يتوان عن وصف الثوار بالخونة والعملاء والمرتزقة والمخربين، وربما الإرهابيين أيضاً..

وعندما عجزت الحكومة عن السيطرة التامة على الشارع رغم آلة القمع المحلية التي أطلقت لها العنان، طلب "مقداد" هونغ كونغ من الصين التدخل بكل ثقلها لقمع الثورة واتهام الثوار بذات التهم التي اتهمهم بها نظامهم، واستطاعت بكين إنهاء ثورة هونغ كونغ بشكل دراماتيكي، إنه تدخل شديد التشابه مع التدخل الروسي في سوريا، ولأن أحداً لا يستطيع أن يتهم الهونغ كونغيين بالأسلمة والتطرف فقد أوجدت الصين ذرائعها للتدخل، وهي ذات الذرائع التي اعتمدتها روسيا للتدخل في سوريا مع فارق في التوصيف والمصطلحات.

هنا لا يمكننا الحديث عن دور إسرائيلي، ذلك ليس دفاعاً عن إسرائيل أو تبرئة لها أو التقليل من دورها في القضية السورية، ولكن لإيضاح دور الحكومات المافيوية التي تُغلّب مصالحها على أي بعد إنساني، فتناصر القتلة والمجرمين من أمثالها على حساب الشعوب والأوطان..

البيلاروسيون في مواجهة موسكو

 الحدث ذاته تكرر في روسيا البيضاء (بيلاروسيا) أيضاً، والتي تقع على بعد آلاف الكيلومترات من إسرائيل، حيث لا مطمع ولا مصلحة إسرائيلية في معاناة البيلاروسيين، ومع ذلك فقد مرت بيلاروسيا بسيناريو شديد التشابه مع أحداث هونغ كونغ ومع الثورة السورية أيضاً، ذات البدايات تقريباً، مع اختلاف السيرورة والنهاية في سوريا.

منذ حوالي عام تقريباً، اندلعت الاحتجاجات في روسيا البيضاء ضد الرئيس إلكسندر لوكاشينكو حينما لجأ إلى تزوير الانتخابات من أجل البقاء في السلطة بالقوة، ظلت المظاهرات العارمة تملأ شوارع العاصمة البيلاروسية "مينسك" لعدة أشهر في أعلى حالة حضارية من التظاهر الأنيق والسلمي، شعارات وطنية وهتافات راقية وسلوك لا يمكن التشكيك بوطنيته، وكانت مشاركة النساء لافتة للغاية، لافتة في حجمها وزخمها وحماستها، ولافتة أيضاً في مدى تحررها وتطلعها إلى وطن أفضل، ومع ذلك لم يتردد "فيصل المقداد" البيلاروسي من أن يتهم المتظاهرين بالمتآمرين والخونة وبأنهم يشتغلون لصالح الخارج ويرتهنون لأجندات خارجية، ولم يتوان النظام البيلاروسي أيضاً عن التلميح بأنهم إرهابيون وكاد أن يصفهم بالسلفيين والدواعش.

وبعد اشتداد وطأة المظاهرات وضغطها على الرئيس لوكاشينكو ونظامه وعلى الرأي العام العالمي أيضاً لفرط سلميتها الواضحة، وأناقة سلوكها ووطنية شعاراتها وخطابها، واستمرار سلميتها التي لا لبس فيها رغم القمع الذي ووجهت به، وبعد الانحياز الواضح من قبل المجتمع الدولي لحق البيلاروسيين في التحرر وتعامله مع الرئيس البيلاروسي على أنه فاقد للشرعية وتوقعات سقوطه السريع، طار لوكاشينكو إلى موسكو مستنجداً بصديقه فلاديمير بوتين، وعلى الفور أذاع بوتين لقاءه بنظيره البيلاروسي على الإعلام معلناً دعمه له في مواجهة الشعب تماماً كما فعل مع السوريين.

طمأن بوتين نظيره لوكاشينكو أن الثورة ممنوعة وأطلق يديه في قمعها ضامناً منع الضغط الأوروبي والدولي عليه، وبالفعل عاد لوكاشينكو أكثر تصلباً وثقة، وتعامل مع الثوار بعنف أكبر، ثم عملت مخابراته على اعتقال المتظاهرين والتنكيل بهم، وملاحقة قياداتهم مما أدى إلى هروب الكثيرين وتحولهم إلى لاجئين، بل وعمد لوكاشينكو إلى خطف بعض الشخصيات الهامة والمؤثرة من معارضيه كما حدث مع أحد قيادات المعارضة "رومان بروتاسفيتش"، حيث تم إجبار الطائرة التي تقله إلى بولونيا على الهبوط في مطار مينسك، ومن ثم اعتقاله وإجباره على الظهور في الإعلام المحلي ليعترف "بخيانته"، وهو نفس أسلوب النظام السوري ونفس الأسلوب الذي تمت من خلاله محاولة تسميم المعارض الروسي "إلكسي نافالني"، والذي عاد إلى روسيا طوعاً بعد علاجه في ألمانيا ظناً منه أن بوتين لن يعتقله، فلم يتردد الأخير في تلفيق التهم له، وزجه في المعتقل حيث لا يزال فيه حتى الآن.

الحرية الممنوعة

لقد ظن السوريون أنهم الوحيدون الذين لديهم فيصل المقداد، وأن الحرية ممنوعة عليهم فقط، وأن المجتمع الدولي باعهم وتخلى عنهم باعتبارهم سوريين، وباعتبارهم خطراً على إسرائيل، وهذه بالطبع حقيقة لا يمكن نكرانها، ولكنها حقيقة محلية صرفة، أما الحقيقة العامة الماكثة اليوم أمام أعيننا، فهي أن منطق القوة هو من يتحكم بمصير العالم برمته، إنها القوة التي توظف كامل أدواتها من أجل تحقيق مصالح المافيات المحلية والعالمية، بعيداً عن مصالح الدول والشعوب، إنها القوة التي لا تؤمن بالمبادئ والقيم ولا بالحريات ولا بكرامة الإنسان، فبالتزامن مع ثورتي هونغ كونغ وبيلاروسيا شهد العراق ولبنان ثورات شعبية عارمة كان من شأنها أن تسقط أعتى الأنظمة لولا تحالف المافيات العالمي ودعمها للأنظمة القمعية بصرف النظر عن الجغرافيا السياسية.

من هنا يبدو واضحاً أن مفهومي الحرية والعدالة هما خصم أساسي ليس فقط لفيصل المقداد والعصابة التي يمثلها، بل أيضاً لتلك القوى المافيوية، وبصرف النظر عن المصالح السياسية والاقتصادية، فقد بات قمع تلك المفاهيم أينما وجدت هدفاً استراتيجياً لقوى المافيا الصاعدة مثل روسيا والصين، بات هدفاً بحد ذاته، لأن مفاهيم الحرية والعدالة تشكل تهديداً حقيقياً لوجودها.

يبدو أن لكل دولة قمعية وليد معلمها وفيصل مقدادها، وعلى عاتق هؤلاء تقع مهمة تدمير الأوطان وتصدير الأشخاص وتوصيف النتائج بالنصر المبين، أما نصر على من؟ فذلك بالنسبة للمقداد وأسياده وأتباعه سؤال مؤجل، وربما ممنوع تماماً.