الفتى كاسر الزجاج

2020.01.06 | 21:30 دمشق

128925_2011_04_20_08_22_24.jpg
+A
حجم الخط
-A

في العقد الأول من الألفية الثالثة قبل 15 عاماً، وحيث كنت أدير مركزاً بحثياً فرنسياً في حلب يقع في منطقة العقبة بالقرب من جامع القيقان ومن باب أنطاكية، وجميعها تعتبر من أقدم أوابد المدينة القديمة التي تحول جزء كبير منها إلى رماد اليوم، كنت أميل إلى الذهاب إلى العمل مشياً على الأقدام سعياً مني إلى تجنب التوتر العصبي الذي تسببه سيارات الأجرة بما أن وسائل النقل العامة لم تكن حاضرة أو حضورها كان شحيحاً وغير منتظم البتة حتى في كنف عصر الاشتباه بإمكانية "التحديث والتطوير".

كان للوصول إلى مكتبي طريقان لا ثالث لهما، الأول يمر عبر سوق "العتمة" وهو، لمن لا يعرف حلب، سوقٌ معتم فعلاً ولكنه أيضاً يتميز بأنه سوق القصابة المليء ببقايا الأحشاء الحيوانية وتسيل على أطرافه دماء الذبائح ويعبق بروائح كل المنفّرات الممكنة. وكان الشعور الوحيد المريح هو وقع الأقدام على طبقات متراكمة من عقود لبقايا الذبائح والتي شكلت طبقة تسير عليها وكأنك فوق إسفنج مريح، بعيداً عن التفكير بتركيبتها العضوية. كان المرور عبره يساعدني على ممارسة قطع الأنفاس وكأنني أغوص في عمق المحيط. ولطالما أغدق عليّ أصحاب المحلات السلام "العطر" ودعوني لشرب كأس من الشاي الذي كنت أعتذر عنه بإيماءة من الرأس. كما كنت أتحاشى النظر في العيون لتجنب ما قيل لي بأنه عصبية مستقرة في نفوس القصابين الذين كانوا يمارسون عملهم وسكاكينهم مستنفرة لأن ذبائحهم غالباً تسرح خارج إطار "الشرعية" اللحمية.

وبعد عدة دقائق، سمعت جلبة في الأزقة المحيطة بالمكتب، فخرجت لأرى عناصر من قوات حفظ النظام بالعشرات يحاصرون مداخل الحي بأكمله

أما الطريق الثاني، وهو الأطول، فقد كان يمر عبر زقاق يحتوي مخبزاً وحماماً. وقد كان الدونكيشوت الذي في داخلي يتطفل يومياً على زبائن المخبز محاولاً ثنيهم عن نشر الأرغفة على قارعة الطريق. وكانت عصبية البعض تدفعهم أحياناً إلى معاملتي كالأجنبي واعتبار ملاحظاتي تطفلاً لا ضرورة لاستمراره وإلا فسيتصرفون بطريقة مختلفة كنت أتحاشى التعرف عليها. أما البعض الآخر، فقد كانوا يسمعون ملاحظتي ولا يبدو عليهم أي ردة فعل وكأنهم تحت تأثير مخدر أو أنهم كانوا يرأفون بحالي. أما البعض المتدين، فقد كانوا يغدقون بسرد البدع الدينية التي تعتبر بأن الشرع حلل (...) وضع الأرغفة على أرض فيها ما تيسّر من جراثيم لأحذية ومخلفات الحيوان والانسان مجتمعة. وفي النهاية، استسلمت، وبدأت ممارسة الحق في الصمت أمام هذا المشهد، خصوصاً وأن صاحب الفرن، جاري العزيز، كان يأتيني بأرغفة ساخنة لفطور الصباح.

في أحد الأيام، وبعد وصولي للمكتب بدقائق، رمى فتيان صغار نوافذ المدخل بحجارة أفضت إلى تحطيم لوح أو اثنين. وقد شعرت بالخوف بداية، وظننت أنه من الأجدى إعلام الشرطة لتأنيب الفتية أو توجيه أهاليهم لحثهم على عدم الإقدام على مثل هذه التصرفات. فاتصلت بقسم باب النصر الذي كان الحي يتبع له، طالباً إرسال عنصر من طرفهم لكتابة الضبط والتصرف بما يمليه القانون. ويجدر التنويه، أن العلاقات في ذاك الزمان بين فرنسا والنظام في دمشق كانت جيدة. وبعد عدة دقائق، سمعت جلبة في الأزقة المحيطة بالمكتب، فخرجت لأرى عناصر من قوات حفظ النظام بالعشرات يحاصرون مداخل الحي بأكمله، مما أدى إلى إغلاق محلات القصابة القريبة، كما الفرن والحمام. وانتشر العسس بإمرة ضابط يطرقون أبواب الحي لإخراج من كانوا من الشريحة العمرية بين 14 و40 سنة. كان المشهد ملحمياً وترددت في أن أصدّق بأنه متعلق بنافذتي المكسورة. وقد ذهب بي الخيال إلى أن الأمر مصادفة وبأن هناك حملة لقمع القصابة العشوائية أو التهريب الغذائي أو المخدرات حتى.

وفي جو الرعب السائد، اعترف فتى بجرمه، فبدأ رئيس القسم بصفع كل الآخرين وهو يطلق سراحهم، وعندما سألته عن السبب، رمقني بنظرة مشفقة مشيراً إلى أنه لا يجوز الخروج من القسم دون صفعة على الأقل

وسرعان ما تبين أنني على خطأ مبين وبأن هذه الحملة هي في الحقيقة لمعرفة من كسر زجاج النافذة، حيث تم تجميع، تخلله صفع وركل، لعشرات من الفتية والرجال بأمرة ضابط لم يتسع كتفاه لنجوم النهار التي تزينه. وكدت لوهلة أن أخشى الاعتقال بدوري كون عمري حينذاك لم يكن قد تجاوز الأربعين. وبعد أن تم حشرهم في باصين للشرطة والانتقال بهم إلى المجهول، أتاني رئيس القسم للاطمئنان على المركز منتظراً الشكر والامتنان ومعتقداً بأن عملية الاعتقال الجماعي التي جرت قد أشفت غليلي. فبدأت معه حواراً "حقوقياً" وإنسانياً مخففاً من حجم الجرم ومشيراً إلى المبالغة في الإجراءات. فما كان منه إلا أن نبهني إلى عدم تقديري للأمور الحساسة التي تمس بأمن الوطن وعلاقاته الخارجية مع الدول "الصديقة".

بعد ذهاب الضابط، انهمرت جحافل الأسر التي تم اعتقال فلذات أكبادها إلى مكتبي راجية مني إسقاط الشكوى والمساعدة على فك أسر أبنائهم، فذهبت إلى قسم الشرطة لأتشفع للمعتقلين معبراً عن تجاوزي لما حصل للنافذة. فأجابني إلى أنه سيعرف من "المجرم" ولو اعتقل المدينة بأسرها. وفي جو الرعب السائد، اعترف فتى بجرمه،  فبدأ رئيس القسم بصفع كل الآخرين وهو يطلق سراحهم، وعندما سألته عن السبب، رمقني بنظرة مشفقة مشيراً إلى أنه لا يجوز الخروج من القسم دون صفعة على الأقل، فتحسست خدي وتخيّلت ما سوف يحدث للفتى كاسر الزجاج.

لا أدري ماذا حلّ بالفتى اليوم، فهل هو ممن ثار أو هو ممن أستزلم، وفي الحالتين، فالصفعة هي كانت السبب.