أحوالنا السورية.. ما العمل؟

2019.05.16 | 09:05 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إنه السؤال الذي كرره كثير من السياسيين عبر التاريخ، وخصوصاً حين يمرُّون بأوقات حرجة، وبخاصة حين تحيط بهم الهزائم، أو تتراجع خططهم، وبرامجهم. ولعلنا اليوم نحن الذي يعنينا الشأن السوري نعيش الحال نفسه فمهما كانت مواقفنا من الثورة السورية بدءاً ومساراً، أسلمة وتسليحاً، تورطاً بإدخال الأجنبي أو الإقليمي، على نحو أو آخر، فإنَّ سوريا تعنينا وطناً حراً يملِكُنا، بالحياة التي عشناها فيه طفولة وشباباً ووعياً لمعانيه، جعلته يتغلغل نسغاً في عروقنا، وسيبقى، ما بقينا، يعيش في أرواحنا وإن باعدت ما بيننا النوائب.. كما يعنينا شأنه والوقوف إلى جانبه في محنته إذ تكالبت عليه الدنيا، وأخذت ذئابها تنهش في جسده وروحه..! ويعنينا أكثر ما آلت إليه الثورة السورية- بالعناصر الغربية التي دخلت أو أدخلت عليها- من هزيمة واضحة المعالم.. فالثورة التي نعنيها، ويعيها الجميع هي تلك الألوف التي خرجت بصدور عارية تستقبل الرصاص الحي وتهتف: حرية..! ويكفينا وجعاً أنَّ مصير الحال السورية كلها لم تعد بيد أهلها اليوم! ولكن لا بد في مثل هذه الظروف من وضع النقاط على الحروف، كما يقال، فإذا كانت الثورة السورية قد هزم "ظاهرها الملتبس" فإن الاستبداد مهزوم بطبيعته، والاستبداد لم يَهْزِم الثورةَ السورية أبداً.. إذ لا يمكن لمن يحمل عوامل هزيمته في داخله، وبين جنبيه أن يلحق الهزيمة بأحد إطلاقاً، هذه حقيقة الحياة والتاريخ، لا كلمات إنشائية تعزف على وتر العواطف.. ثم إن الثورة السورية ضرورة موضوعية تتطلبها الحياة السورية نمواً واستمراراً وازدهاراً..!

إن الأصوات التي ترتفع اليوم بالدعوة إلى استمرار الحرب واعتماد هؤلاء الذين كانوا سبباً رئيساً في كل المآسي التي ألحقت بالشعب السوري

إن الأصوات التي ترتفع اليوم بالدعوة إلى استمرار الحرب واعتماد هؤلاء الذين كانوا سبباً رئيساً في كل المآسي التي ألحقت بالشعب السوري حين استجابوا، وعلى نحو فوضوي، ذلك إذا أخذنا الأمر بحسن نيِّة، وسلامة قلب، لتحقيق أمنية لطالما نشدها النظام، أمنية شديدة الحساسية لديه، إذ كان في موقف لا يحسد عليه.. بل هو في غاية الحرج داخلياً وخارجياً، يحاول الخروج من أزمته تحت أية ذريعة.. فكيف يبرر ردَّه بالقتل البارد للعشرات، بل لمئات المتظاهرين السلميين الذين ملؤوا ساحات المدن بمئات ألوف الناس يصرخون بوجهه: أن ارحل، كان جلّ همه أن يجد مسلَّحاً واحداً على الأرض أو في الميدان ليأخذه ذريعة ملموسة، فجاءته على طبق من ذهب ليبدأ التهليِل من فرح، إنه يحارب الإرهاب.. ليس ذلك فحسب، بل إنه يحارب إرهاباً يحمل فكراً متطرفاً.. وبذلك برر مجازر الدم التي ارتكبها قبل أن يكون هناك أيُّ مسلح، إضافة إلى أنَّ هؤلاء الذين مكَّنوا النظام من دليل التبرير، قد أفسحوا، في المجال، للفوضى، ولإدخال السلاح على نحو غير مدروس، وللتدخل الخارجي والإقليمي ليصرعوا السوريين، ويتصارعون على أرضهم، كما أنهم بفعلهم الأرعن ذاك، سدُّوا الطريق على هؤلاء العسكريين الذين رفضوا قتل أبناء وطنهم، وآثروا الانشقاق من الجيش ليتفاجؤوا بتلك الكتائب غير المؤهلة فهي لم تكن لتملك ثقافة القتال الثوري وقد قطعت الطريق على مسعى هؤلاء الضباط لتشكيل قيادة عسكرية موحدة تشرف على من يريد مساندة الحق ودفع البلاء عن المتظاهرين السلميين..! كما أفسحوا، في المجال أيضاً، لدخول المليشيات والمليشيات المضادة، ولتصبح معظمها مضادة، وكان ما كان وما هو معروف لدى الجميع.. اليوم وتحت تأثير الحالات الإنسانية التي تكررت في حلب ودرعا وريف دمشق ترتفع أصوات تطالب بالصمود واستمرار هذه الحرب التي لم تمس الطغمة الحاكمة بأيِّ أذى، في حين لم تترك أسرة سورية لم تصب بشروخ في أحوالها ومرارات في أرواحها.. اليوم وتحت تأثير أوجاع السوريين في إدلب وريف حماة الشمالي والقصف الوحشي يقوم به النظام والروس، كالعادة، وما أودت به المسارات الخارجة عن إطار جنيف ورعاية الأمم المتحدة.. ينادي بعضهم لا بالصمود فحسب، بل بالمضي عسكرياً أو "جهادياً" كما يفضلون المفردة نحو التحرير الكامل وهذا نموذج لما يقال ويكتب:

 "يجب تنظيم أنفسنا لنقوم بتوحيد الكفاح المسلح بقيادة محترفة، عسكرية، والذي يجب أن يكون بإشراف ورعاية وتوجيه قيادة سياسية ثورية متعلمة حاملة للبندقية تعيش في الداخل السوري مع شعبها البطل، وتقاتل مع المقاتلين وتأكل مما يأكلون، وتلبس ما يلبسون.. تعيش همومهم، وآمالهم وطموحاتهم بالحرية، وتنشر فيهم روح الثبات والمثابرة، والعمل الصادق والأمين.. هكذا تنتصر الثورات في التاريخ.."

لاشك في أن هذا الكلام جميل، ودعوته وطنية بامتياز.. ولكن دعونا ننظر إلى الوجه الآخر للمسألة، دعونا ننظر إلى حال شعبنا بحق، حاله في مخيمات اللجوء، وفي تشتت أسره وعائلاته، ولدى شبابه وهم يبحثون عن عمل تقتات منه أسرهم، فلا يجدونه وحال مئات الألوف، إن لم أقل الملايين، من الأطفال الذين حرموا من حق التعليم وحقوق الطفولة كافة، وربما تعرضوا لأسوأ الانحرافات.. وانظروا إلى الحال السورية كلها ومن الذي يدير شأنها اليوم؟ فلا النظام ولا المعارضة يتمتعان باستقلال ما، فكلاهما مرتهن للأجنبي.. ثم إن هذا الأجنبي إن لم يفز بقطعة أرض، فقد فاز باستثمار ما.. فسوريا التي ما قبلت في تاريخها أن ينتقص شيء من كبريائها تتعرض اليوم على يد بشار الأسد إلى أسوأ مهانة، وأسوأ إذلال..!

نعم إن سوريا محتلة اليوم، ويعيث فيها الأجنبي غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، وهذا الأمر لا يحتاج إلى إثبات، ولا يختلف اثنان حوله

نعم إن سوريا محتلة اليوم، ويعيث فيها الأجنبي غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، وهذا الأمر لا يحتاج إلى إثبات، ولا يختلف اثنان حوله..! ولكن السؤال المهم هو كيف تكون المجابهة، بل كيف يكون التحرير في هذا الظرف، وبعد كل هذا الخراب، وأولاً وأخيراً، فهل سوريا لمن هم خارجها؟ أو لمن هم في الداخل؟ أو لكليهما معاً، أيْ للشعب السوري الواحد..؟! ألم يرفع الشارع، منذ البدايات شعار: "واحد، واحد، واحد الشعب السوري واحد.." ثم، وهذا الأهم، دعونا نمعن النظر إلى المسألة كلها، ومن الذي استفاد من الحرب عموماً؟! بل من الذي ما كان له أن يعيش أو يبقى على كرسيِّه لولا هذه الحرب العبثية.. ودعونا نفكر بجد هل سقط الأسد أم لا؟! وإذا كان فعلاً لم يسقط، أو مختلَف حول سقوطه أو عدمه.. فالظاهر للعيان أنَّه ألعوبة بيد المتدخلين، فهذا يتركه للابتزاز والمساومة، وذاك يجعل منه غطاء لشرعية وجوده الاحتلالي..! ثم هل ستسقطه الحرب إن استمرت أم ستقودنا إلى متاهات أكثر بعداً عما نفكر به ونحلم، وإلى جولة جديدة من الآلام والأحزان.. ما أظن وجوده اليوم إلا كرتوني الشكل، إذ أسقطه دم المليون شهيد، وأسقطه خراب المدن الكبرى المرعب في حلب وحمص ودير الزور.. وأسقطه إدخاله الأجنبي والبدء ببيع سورية قطعة.. قطعة.. وباتفاقات يمنحونها ظلماً صفة الشرعية والقانون..! ويسقطه الوضع المعيشي والاجتماعي ومرارة القهر الذي يعيشه السوريون عنده في الداخل..!

قد تكون الثورة هزمت شكلاً، لكنها، بحق، قد نجحت محتوى ومدى.. نجحت في أنَّ أحداً لم يعد يقبل بحكم استبدادي أسريّ يكون الجيش فيه "عقائدياً" أو تتغلب عليه فئة سورية دون أخرى، وها هي ذي كل من السودان والجزائر قد استفادتا من التجربة السورية، وأفادتاها بحرص جيشيهما على عدم التورط بإراقة قطرة دم واحدة..

وأخيراً يمكن القول: إنه لا يوجد في التاريخ ثورة بهذا العمق لم تمر بمنعطفات خطرة، وقد ظنَّ الكثيرون أنها هزمت.. لكن الحياة وشروطها الموضوعية تعمل على إنهاضها من جديد.. ولعلها منحت جيل الشباب ثقافة جديدة تؤهلهم لمتابعة مسارها. ودعونا اليوم نمضي مع أقدار هذا المسار محافظين، إن استطعنا، على وحدة سورية تراباً وناساً، وأن يتابع العمل بما هو متاح لإقامة حكم ديمقراطي قائم على التعددية السياسية، تحقيقاً للمواطنة الكاملة، وقبل هذا وذاك، العمل على إعادة المهجرين إلى منازلهم التي أخرجوا منها، ومن أجل الإفراج عن المعتقلين السياسيين كافة، والإمساك بالقرار السوري كاملاً، وإن على مراحل..!