يوم ضاع هاني عند "برج سيريتل"

2020.10.31 | 23:26 دمشق

cc341466-dde8-4837-a65e-a32fb9c685d1_16x9_1200x676.jpg
+A
حجم الخط
-A

بقدر ما تطوي الحرب فصولها الدامية وتسير الحالة السورية نحو التهدئة والتبريد، بقدر ما تتكشّف الأيام عن فظائع ومآسي حدثت خلال السنين العجاف التي انقضت، والتي تطلّ علينا بين الفينة والأخرى من داخل سوريا ومن خارجها على ألسنة من عاينوها أو كانوا شهوداً عليها أو أنهم كانوا هم وذويهم وقودها وضحاياها.

هذه التصنيف الأخير ينطبق على السيدة نجوى هـ. (56) عاماً تنتمي إلى عائلة مسيحية من حي جرمانا في العاصمة دمشق والتي وصلت فرنسا عام 2016 وقد تركت بيتها في سوريا وفي قلبها غصّة تعرفها جيداً ألوف الأمهات السوريات اللاتي فقدن فلذّات أكبادهن في هذه الحرب.

لكن مأساة (هاني) فلذّة كبد السيدة نجوى هي بحقّ حادثة غير مسبوقة في الحرب السورية، بل ولا نشهد على مثيلٍ لها في حروبٍ مضت. فقد ترك الصبيّ بيت أمه ومضى في صباح يومٍ حارّ من صيف عام 2014 وهو لا يعلم أنه يمشي إلى حتفه الذي رسمه له نظام الأسد.

تعرّفتُ بالسيدة نجوى هـ. عن طريق صديقة وناشطة سياسية معروفة مقيمة في باريس، وتواصلتُ معها مرتين خلال الأيام القليلة الماضية. ولكن بسبب ظروف كورونا الاستثنائية هنا في فرنسا استعضنا عن اللقاء المباشر بمحادثة فيديو عبر تطبيق (زوم)، ثم أتبعناها بعد بضعة أيام بدردشة صوتية مطوّلة عبر الوتسآب. وعندما أسترجعُ كلمات السيدة نجوى لغرض كتابة هذا العرض، تنتابني رعشة من الخوف كما لو أني أشاهد شريطاً من فيلم رعب نفسي أو عملاً من أعمال الخيال الشرّير. فالواقع السوري وإن كان يعجّ بالآلام إلا أنه نادراً ما أفصح عن العَبَث، والعبث الذي سنشهده في قصة هاني، فقيد الأم نجوى، لن يكون مستبعداً عن دائرة المعقول إذا ما علمنا أن المخابرات الجوية في نظام الأسد هي التي كتبت فصوله وأخرجت مشاهده.

قبل يومٍ واحدٍ فقط من سقوط مطار الطبقة العسكري في الرقة في يد تنظيم الدولة، وتحديداً يوم 22 آب/ أغسطس عام 2014 استأذن هاني (16 عاماً /مواليد 1998) أمه بمغادرة البيت صباحاً زاعماً أنه ذاهبٌ للمسبح برفقة صديقه نبيل. لكن نبيل وهاني كانا يلويان على أمرٍ أزمعا أن يقوما به معاً دون إخبار أبويهما. فقد ذهب الولدان للالتحاق بلجان الدفاع الوطني في جرمانا بتشجيعٍ من عنصر مخابرات جوية معروف في الحيّ اسمه (عزّو). كان عزّو قد وعد الصبيين أن يحصلا على بذلة عسكرية وقطعة سلاح، ومن ثم يُنتدبان إلى حاجزٍ قريب من بيتيهما في حي جرمانا.

لم يطل الأمر كثيراً. خلال ساعاتٍ من يوم 22 آب - 2014 حصل الولدان على ما يريدان: بذلة عسكرية وبارودة، وأكثر قليلاً! فقد تم سوقهما إلى مطارٍ حربي على أطراف غوطة دمشق وطارا مع رفاقٍ لهما (اثنان منهما كانا من جرمانا أيضاً، واحد اسمه محمد وآخر من عائلة الترك) إلى مطار الطبقة العسكري في الرقة، والذي كان في تلك الفترة تحت نيران تنظيم الدولة التي كانت تحاول اقتحامه بشتى وسائل الرعب، بما في ذلك استخدام السيارات الملغمة والهجمات الانتحارية.

وصل هاني ورفاقه المطار مساءً وهم لا يعرفون يمينهم من شمالهم. كان الوقت قد تأخر، فافترشوا الأرض مع مئاتٍ من العساكر الآخرين وناموا بعمقٍ من تعب يومٍ كان بألف يوم في تسارع أحداثه وغرابتها. لكن هاني لم يهنأ بالنوم.

ففي فجر اليوم التالي سمع صيحاتٍ مخيفة تحثّ الجميع على الاستيقاظ. إنه حتماً ليس صوت أمه. كان أمراً عسكرياً بالانسحاب لأن تنظيم الدولة دخل المطار. بين التصديق وعدم التصديق تخيّل هاني أنه في البيت بجوار أمه، فتنظيم الدولة أصلاً طالما تداول سكان جرمانا أنها مجرد وهم أو كذبة من أكاذيب نظام الأسد. لكن ما كان يحصل أمامه لم يترك له مجالاً للشكّ. فقد هزّت أصوات الانفجارات قلبه الصغير رعباً وحرّك تراكض العساكر من حوله غريزة البقاء عنده كي يحزم حقيبته بسرعة ويهرب. إلى أين المفرّ؟ فهو لا يعرف المنطقة ولم يشاهد الرقة من قبل إلا في التلفزيون، بل إنه لم يغادر دمشق إلا يوم أمس عندما ركب بالمروحية!

هاني.jpg

 

استقبلت صحراء الرقة هاني و(700) من العساكر الهاربين من تنظيم الدولة بقسوةٍ وتجهّم، جوّعتهم وأعطشتهم، وضيّعتهم في دروبها المضلّلة التي لا تعطي سرّها إلا للقليل. كما أن داعش كَمَنت للعساكر الفارّين عند أكثر من منعطف حتى تفرّق الجمع وصاح كلّ واحدٍ (اللهم نفسي!)

وضاع هاني وضاع معه معظم العساكر المُنسحبين من مطار الطبقة العسكري في حادثةٍ خلّدها تاريخ الحرب السورية.

قال نبيل الذي نجا ليروي ما حصل إن في الصحراء التي رأى فيها هاني آخر مرة كان يوجد برج تغطية لشركة سيريتل. تبكي السيدة نجوى وهي تعرف أن أبراج سيريتل تملأ سوريا بجبالها وسهولها وصحرائها فكيف السبيل لمعرفة مكان اختفاء هاني؟

لكن برج سيريتل بقي يحفر في ذاكرة الأم التي وصلت فرنسا مذكراً إياها بآل مخلوف أصحاب الشركة وبعائلة الأسد وحلفائها من المجرمين والطائفيين الذين نهبوا البلد ودمروها، قتلوا شبابها وشردوا شيبها، وتسببوا بكل تلك الأهوال التي لا تصدّق.

تقول لي أم هاني: "أنا سيدة سوريّة. ما حصل معي حصل مع كثيرٍ من الأمّهات السوريات... لذلك فأنا عندما أتكلم، فأنا أتكلم (نيابةً) عن كل أمّ سورية حصل معها ما حصل معي."

تشعر السيدة نجوى بالثقة الآن لأنها انطلقت من الشخصي للعامّ، وقررت حمل قضية ابنها هاني وباقي شباب سوريا الذين غيبتهم الحرب بعد أن أطالت الصمت في الماضي رغَباً ورهَبا، فكانت هذه نقلةً كبيرة في حياتها على الصعيد الشخصي.

تضيف أم هاني:  "رغم كل الألم الذي كنت أشعر به، لم أكن أجرؤ أن أتكلم وأقول: بدي ابني! رجعولي ابني! ... يا للأسف أنا تكلمت في وقت متأخر- لكن المهم أني تجرأت على الكلام."

ومن فرنسا تعمل السيدة نجوى على تأسيس منظمة (هاني) لمساعدة الأمهات السوريات في الخروج للعلن والمطالبة بكشف مصير أبنائهن المفقودين، وتعرية العصابة الحاكمة في سوريا، وشرح حقيقة ما جرى في بلدنا في السنوات العشر الماضية، وخصوصاً لجهة دعم النظام للجماعات الإرهابية وتحالفه معها، فصوت هاني ما يزال يهتف في وجدان أمه كي تواصل مع باقي السوريين المعركة لإسقاط نظام الأسد وإنقاذ مستقبل الأجيال القادمة من قبضة هذا النظام.