هشاشة الظل وسؤال الهوية في رواية "حب في منطقة الظل"

2023.07.26 | 06:30 دمشق

آخر تحديث: 26.07.2023 | 06:30 دمشق

هشاشة الظل وسؤال الهوية في رواية "حب في منطقة الظل"
+A
حجم الخط
-A

أعود إلى رواية (حب في منطقة الظل) لعزمي بشارة، وأقرأها وأستعيد ذاكرة خزنتها ليس لأن الأدب لا يفقد قيمته مع الزمن، وليس لأن الماضي يؤسس للراهن، ولا لأن الرواية بحد ذاتها تجاوز للزمن بقدر إغراقها فيه، بل لأن كاتب هذه الرواية وفي مقابلة مرئية أُجريت مؤخراً معه في الذكرى الخامسة والعشرين لتأسيس جمعية الثقافة العربية في فلسطين قال جملةً أثارت اهتمامي وهي "أن العرب في الداخل هم أقوى أجزاء الشعب الفلسطيني، من ناحية هم أكثر هشاشة، لكن إذا أدركوا قوتهم سيدركون أنهم أكثر قوة الآن". وأكد على الهوية وأهميتها لأن "الوعي بمسألة الهوية، وسؤال الهوية هو سؤال مصيري ومهم في تجربة الفلسطينيين في الداخل.. وعنصرية إسرائيل المغلقة لا تحدد ولن تكون سبباً في الحفاظ على الهوية".

ومن أسباب الرجوع إلى الرواية أيضا كونها جنسا أدبيا يتتبع الأثر الإنساني والاجتماعي والسياسي بلا محرمات الأكاديمي، حيث يقول بشارة في محاضرة حول كتابه "في المسألة العربية: مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، "إن رواية حب في منطقة الظل عمل مزاجي"، وذلك ليميزها عن كتابة الفكر والعلوم الاجتماعية التي تتطلب الفصل عن المزاج "لأنك لا يمكن أن تبني عملاً فكرياً بناء على مزاجك السياسي الراهن" بينما يمكن للكاتب أن يكتب الأدب ويغوص في مزاجه حد الأسطورة، ويستعير عيون ميدوزا ليتجمد كل من يحدق في عينيه، ويحلق بلا جناحين ليكتشف تضاريس الوطن وتنوع السنديان والخروب والملول والبطم والزعرور والجميز، والرواية تسمح للكاتب أن يبتلع ظله عندما يحس بالاحتلال وجهاً لوجه أمام مواسير وقضبان الحواجز التي تطوق الروح والجسد، ويستفرغه أيضاً  بطريقة غرائبية لا يمكن التعبير عنها إلا بما هو أكثر غرائبية مما لا تتحمله التنميطات النظرية وسلاسة توارد الزمن وتعاقب الأحداث.

ومن جملة الأسباب التي أعادتني للرواية ما يجري لدولة الاحتلال اليوم من تخلخل البنى المؤسسية الضامنة "لديمقراطيته" وصعود الأجنحة الأكثر تطرفاً إلى قمة الحالة السياسية والذي أحالني إلى مصدر القوة التي أشار إليها بشارة والتي يجب أن يتحسسها فلسطينيو الداخل ويتجاوزوا هشاشتهم التي تركز عليها الرواية من خلال نقد الأوضاع السائدة هناك وذلك بالغوص في أكثر الزوايا ظلاماً ونبشها، وإخراج الأكثر عفونةً وتعريضه للشمس، ما يجري الآن يستدعي الدخول إلى الظلال الرطبة والحفر في منشئها وآليات استمراريتها، وفهم ميكانيزم استطالتها وعلاقته بالخلاص الفردي، وتقلصها والتخلص منها تحت تأثير تعزيز الهوية وتعزيز فكرة "الأصلانية"حيث العرب هم السكان الأصليون وأصحاب البلاد، وأن المواطنة ليست تسولاً على موائد اللئام، وعلى الصهيوني أن يفهم أن المواطنة ليست منّة منه.

تبدأ الرواية في لحظة انعتاق الروح من تشوه الجغرافيا وتشظي التاريخ وبلادة الزمن إلى زمن الحب بين دنيا التي اقتُلعت من جذورها ولم تسرقها المسافات من رائحة الوطن، وبين عمر الذي بقيَ يكبس ملحاً على الجرح ويصرخ "لا" في وجه الظلال

في هذه الرواية يدقق بشارة بتفاصيل التفاصيل كي يعرف حدود الذات ويستجمع فسيفساء الهوية ليحدد الرؤيا ويرسم الخطوة القادمة، ومن تفاصيل الظلال المرمية على أطراف المتعبين والخائفين يستل ذلك الخيط الذي يربط التاريخ من لحظة الجرح وانقشاع الدخان حتى محاولة طمس الحقيقة، ليعري زمن الهشاشة وتشوه القيم لا ليتشفى بأهله بل ليستنطق الضمير والأخلاق ويستنهض معادلات الكبرياء والكرامة لهزيمة ظل استوطن في الفلسطيني، كي يلملم الجرح، ويخيطه، ويستصرخ الألم في هذا التشظي كي يعطي لتشتت الروح مرسى.

تبدأ الرواية في لحظة انعتاق الروح من تشوه الجغرافيا وتشظي التاريخ وبلادة الزمن إلى زمن الحب بين دنيا التي اقتُلعت من جذورها ولم تسرقها المسافات من رائحة الوطن، وبين عمر الذي بقيَ يكبس ملحاً على الجرح ويصرخ "لا" في وجه الظلال، ليعيد شكل الوطن في القلب ويرسخه فكرةً لا تُمحى في العقل.

ويتسامى عمر في هذا الخيط المتصل من حروف الروح على طرفي الأرض إلى عالم التجلي، إلى ما يشعل القلب ويرميه خارج دوامة الجعجعة بلا طحين، ليرى الظلال وقد تمردت على أصحابها، والكلمات تجاوزت حدود حروفها فتاهت معانيها، والعبارات حملت في جوفها نقيضها فأصبح "ظل السيد: السيد ظل، وعبد السيد: السيد عبد، وأزمة الهوية: هوية الأزمة"؛ إنها تعرية للذات، تجعل من الجميع متورطين ومطالبين بأن يتقيأوا ظلهم بالاعتراف بوجوده، بالرغم أنه "لا توجد نهاية لعملية نشوء الظلال في الواقع المنفصم، لكن توجد نهاية كامنة في حرية كل منا أن يختار موقفه الأخلاقي".

لم تكن دولة الحاجز جغرافيا وحدود وأنظمة ومؤسسات بل نحتاً مفهومياً يستنطق استعماراً استيطانياً ينفي الأصل ليؤكد الوهم فوق أرض الحقيقة، ولم يكن ظل الحاجز تركيب لغوي يُعّرِفُ انحسار الشمس عن المشهد بل تمثيلاً لانكسار الروح في لحظة الإحباط، في لحظة السقوط في الفراغ ولا منقذين، في زمن الأوراق الصفراء المتناثرة فوق طاولات ملّت وجوه مرتاديها، أما بلاد الحواجز فالاسم يكفي لتتعثر أكثر الكلمات مأساوية في التعبير عن ماهيتها، طرق مقطعة بمكعبات أسمنتية تشي بالاحتلال وقسوة اللحظة، زيتون يحن على جذوره خوفاً من غريب لا يعجبه انسيابية الورق، سياج يرمي بالكآبة فوق الشوارع حمماً من اللاجدوى، طرق التفافية للهروب الأخير نحو الجحيم.

يبوح بشارة لنصفه المرمي على قارعة اللجوء، ونصفه الآخر المزروع في ظل دولة الحاجز، ليُفرغ حمولة همٍ سال على أطراف القلب، ويوزع اغتراب الروح وغربة المنفى على قلبين، قلب دنيا التي استأنست برائحة الميرمية المتعشقة بثياب عمر والمحمول أخلاقياً على سمعة عمو صلاح الذي داس على ظله ولم يساوم على الهوية، وقلب عمر المجنون بين عقلاء الظلال، والعاقل عندما يتخذ الجنون شكل الظلال.  

ولأن بشارة يدرك أنه "لا يمكن أن تنبت مصلحة للسكان الأصليين من استعمار استيطاني" كان عليه أن يتحسس حواف الانقسام بين الظل وصاحبه، بين أنصاف النفوس، ليعيد تصور الأصل والوحدة دون تجاويف لحظة الانكسار. يبحث عن المعادلة التي تعيد النفوس إلى كمالها، وتجاوز "نصفي الصراع" إلى وحدة الصراع، ولم يمنعه وجوده في الداخل من أن يتحسس ضآلة التنظيمات على أطراف الوطن التي تفتخر بعدد الشهداء وليس بالإنجازات، تفتخر بعدد العمليات لا فاعليتها لتقتنص الحصة الأكبر من الكوتة، وكثير من قياداتها الذين استولدتهم مرحلة لبنان أصبحوا اليوم قيادة في سلطة بلاد الحواجز ويقيمون في ظلال دولة أفردها لهم الحاجز بعد أوسلو.

فلسطين في رواية "حب في منطقة الظل" هي الوطن المتشظي بين تاريخ أنهكته حفريات المستوطنين بلا جدوى، وجغرافيا أنهكتها الحواجز والاستيطان

يستجمع بشارة أدواته المعرفية من فلسفة وعلم نفس وعلم اجتماع لا ليجرد ويصل إلى الكليات ويستنتج المفاهيم النظرية والمصطلحات المعرفية، التي يصر دائماً على تحديدها وتأكيد تاريخيتها بكل كتبه النظرية والفكرية، وإنما ليلبس المفاهيم أنفاس العاشقين ويبث بالمصطلحات شكل الحنين، ويضفي على الكليات روح الحب، وينثر ورداً على كلام الوله والحنين، ودمعاً يبلل لوحة مفاتيحٍ تئن حروفها تحت وطأة الحرمان، ومع ذلك لم يستطع بشارة أن يكبت مخزونه الفلسفي ليأت نيتشة مسربلاً بموقفه من الجمال، وكانط مفتخراً بمبادئه الأخلاقية، وهايدغر يتسلل بين التعابير وتراكيب الجمل، وفرويد يحلل جوهر الدين، والديالكتيك يؤكد وحدة الأضداد، وفوكو ليؤكد أن السجن ظاهرة حديثة، ورومانسية ماركس الشاب ونظرته لإسعاد البشرية، دون أن يؤثر ذلك على سلاسة النص وبعده الحميمي.

فلسطين في رواية "حب في منطقة الظل" هي الوطن المتشظي بين تاريخ أنهكته حفريات المستوطنين بلا جدوى، وجغرافيا أنهكتها الحواجز والاستيطان. التاريخ يتشبث بالحيطان وبقايا الأحجار ويهمس في كل الزوايا كي لا تضيع السردية في أنفاس الباقين، الجغرافيا تشظت والأمكنة تئن تحت الاستيطان بأسماء تهشمت حروفها لتشبه لغة المحتلين حيث "انتزعت القرية من المكان، والمكان فُرّغ من جوفها" و"ديمقراطية كذابة سوفاج" تفوح منها رائحة العنصرية.  فلسطين في هذه الرواية هي وحدة الروح بين الداخل والخارج، هي شعب مازال يؤمن أن تهمة العمالة أصعب من كل تعذيب المحققين، هي خيط من كلمات الحب والحنين تعيد تشكيل المسافات على شكل وطن، هي وحدة شعب فوق تشتت الجغرافيا، بين من يعيشون بالمخيم وراء الحدود وبين من بقوا في فلسطين يعيشون في ظل زيتونه، فلسطين وحدة الدمع بين من يموتون بعيداً في مخيمات اللجوء ولم يسعفهم العمر من العودة، وبين من يبكون عليهم في فلسطين بعيداً عن المكان والزمان، إنه "موتٌ لا يتماكن، وحزنٌ لا يتزامن".

أما السخرية فإنها تأتي لترصف المسافة بين الضحك على ظلال ملت ركوب أصحابها وبين البكاء على أرواح تعبت وهي تبحث عن ظلها، تأتي لتبين الهوية المركبة حيث "الهليكوبتر من دولة الحاجز، والطبالة والدف من عرب المنطقة"؛ سخرية تضحك حد البكاء من التناقض الصارخ بين المظهر المستورد وتمثله في بلاد الملح.

وبعد أن يغرق بشارة في تحليل الظلال وتعرية تناقضاتها لا يتركنا دون أن يرسم الرؤية ويحلم

"فقط بإزالة الحاجز، فلا يكون أمامه ولا فوقه ولا ظله. نريد أن يمكننا السلام من المشي من الجبل إلى البحر، وبالعكس، أن يعود من غاب وغيب ممن سرقت بيوتهم وأراضيهم من أصدقاء والدي.. والأهم من ذلك كله أن أمشي خطوتي، لا خطوة الآخرين وأن أشم الهواء برئتي أنا لا برئتين اصطناعيتين".