نحو تجريم التجنيد الإجباري في سوريا

2021.03.09 | 05:52 دمشق

d8b5f331-ccdf-417a-b043-c3039ec42411_0.jpg
+A
حجم الخط
-A

لعل من أكثر القضايا التي تشكل عدوانا كبيرا على حقوق الأفراد، وانتهاكا لحرياتهم واستباحة لدمائهم، هي قضية التجنيد الإجباري في سوريا، سواء لدى النظام السوري، أم ميليشيا "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) التي تقوم بالتجنيد أيضا، والذي يعتبر في كل الحالات أحد أبرز روافد تغذية عجلة الحرب في البلاد.

وإذا كانت الجرائم والانتهاكات التي يقوم بها النظام والميليشيات من عمليات قصف وقتل واعتقال وتهجير، مصنفة وفق الشرائع الدولية كجرائم حرب، وبالتالي فهي مدانة قانونيا، فإن عمليات التجنيد تبدو ملتبسة بعض الشيء بالرغم من عواقبها الوخيمة على الأفراد والمجتمعات، وعلى مستقبل البلاد برمته.

القانون الدولي لا يلزم النظام بوقف عمليات التجنيد بوصفها عملا من أعمال سيادة الدولة. لكن هذا الحكم لا ينطبق على ما تقوم به "قسد"

ووفق القانون الدولي، فإن التجنيد الإلزامي ما يزال من الصلاحيات المعترف بها للنظام ما دام هو من يمثل سوريا في الأمم المتحدة، حيث أهملت العقوبات الدولية الكثيرة المفروضة على النظام هذا الجانب، وتركت له ورقة الشرعية التي يتمكن بمقتضاها من فرض التجنيد، مثلما يمسك بأشياء أخرى مثل إصدار جوازات السفر ومختلف الأحوال المدنية، بالرغم من أن النظام مدان بتقارير دولية بارتكاب جرائم حرب، واستخدام السلاح الكيماوي، وتحول خلال السنوات الماضية إلى مجرد طرف منخرط في حرب "أهلية" داخلية وفق التوصيف القانوني السياسي، وهو ما يفترض أن يجرده من شرعيته الدولية.

وعلى هذا الأساس، فإن القانون الدولي لا يلزم النظام بوقف عمليات التجنيد بوصفها عملا من أعمال سيادة الدولة. لكن هذا الحكم لا ينطبق على ما تقوم به "قسد" التي لا يمكنها ممارسة هذا الحق، حيث تعتبر عمليات التجنيد التي تقوم بها مكافئة لعمليات الاسترقاق والخطف، لأن هذه الميليشيات لا تملك المزايا التي تتمتع بها الدول ذات السيادة، فضلا عن أن بعض الأحزاب الضالعة مع "قسد"، مصنفة دوليا كأحزاب إرهابية.

إن الجهد السياسي والحقوقي يجب أن يتوجه إلى تجريم عمليات التجنيد الإلزامي للشبان بهدف سوقهم للمشاركة في أعمال عسكرية ترتكب خلالها مختلف أشكال الانتهاكات لحقوق الإنسان، سواء لدى النظام أم "قسد" فيما يظل الانخراط في الميليشيات العسكرية الأخرى، "طوعيا" من الناحية النظرية، حيث تستغل الميليشيات الموالية للنظام ظروف الشبان الذين هم في سن التجنيد في ضوء تفشي البطالة، وحاجة الكثير منهم لحماية ما من بطش أجهزة النظام الأمنية، عبر تزويدهم ببطاقات أمنية تسهل حركتهم وتنقلهم، إضافة إلى تملصهم من الخدمة العسكرية في صفوف قوات النظام، وهي خدمة محفوفة بالمخاطر وقد تمتد لسنوات بأجر زهيد لا يسد الرمق.

أما التطوع في الفصائل المقاتلة التي في صف المعارضة، فهو يقوم غالبا على عقيدة قتالية من منطلق مناهضة النظام، دون إغفال أن البعض يتطوع تحت ضغط الحاجة المادية بشكل رئيسي.

وهذا الجهد ينبغي أن يسعى إلى توفير الحماية القانونية للشبان الملاحقين بالتجنيد الإلزامي في قوات متهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بل وتجريم هذا التجنيد من الناحيتين القانونية والأخلاقية. 

وفي هذا السياق، ينبغي الضغط السياسي والحقوقي على الولايات المتحدة التي تمد "قسد" بالمال والسلاح، لربط هذه المساعدات بالكف عن سياسة التجنيد الإلزامي، المخالفة للقوانين الدولية، وهي قضية لم يتم العمل عليها بجدية حتى الآن، لا من جانب المعارضة السورية، ولا المنظمات الحقوقية المحلية والدولية، بسبب تغليب الحسابات السياسية، على الاعتبارات القانونية والأخلاقية.

وشهدت مناطق سيطرة "قسد" منذ مطلع العام الجاري احتجاجات ضد هذه الممارسات، خاصة بعد تكثيف "قسد" حملات الدهم والاعتقال بحثا عن الشبان المطلوبين للخدمة الإلزامية في صفوف ما يسمى بـ "قوات الحماية الذاتية"، في مناطق سيطرتها. وتتسبب هذه السياسات، فضلا عن الصدامات المستمرة مع المجتمع المحلي، في تهجير نسبة كبيرة من الشبان إلى خارج البلاد هربا من التجنيد الإلزامي سواء في صفوف "قسد" أم قوات النظام، في حين قد يضطر كثير من المتبقين إلى ترك أعمالهم والاعتكاف في منازلهم لتجنب اعتقالهم من جانب دوريات النظام و"قسد"، وهو ما يفاقم من أوضاعهم المعيشية المتدهورة أصلا بسبب ضعف الحركة في السوق على خلفية وباء كورونا، وتردي الوضع الاقتصادي.

وهذا التهجير لعشرات وربما مئات ألوف الشباب، وإفراغ بعض المناطق جزئيا من سكانها، يعتبر هجرة صامتة متممة لعمليات التهجير التي جرت خلال ذروة الحرب في السنوات الماضية.

يستخدم النظام السوري و"قسد" كلاهما، سياسة الخدمة الإلزامية كأسلوب نهب وابتزاز لناحية ضغط النفقات لأن راتب المجند إلزاميا لا يساوي ربع راتب المتطوع

ومن خلال تمسكها بهذه السياسة، فإن "قسد" ربما تحاول أيضا التأكيد على فكرة أنها إدارة متكاملة مدنية وعسكرية، وأنها تعمل على تشكيل "نواة دولة" أو حكم ذاتي، ما يلزم تطبيع الناس على هذه الفكرة، لتكون مستقبلا بديلا عن النظام السوري في تعاملها مع المدنيين على صعيدي الحقوق والواجبات، فضلا عن المنافع الاقتصادية التي تجنيها "قسد" نتيجة هذه السياسة تدر عليها ملايين الدولارات كمساعدات من التحالف الدولي، كلما زاد تعداد قواتها. أما النظام فهو يسعى إلى تعويض خسائره البشرية في سنوات الحرب الماضية التي أنهكت حاضنته الطائفية، وهو يسعى إلى زج أبناء المحافظات التي ثارت عليه في ماكينة الحرب للتخفيف عنها، وربما للتخلص أيضا ممن يعتبرهم أعداء مضمرين. كما يستخدم النظام السوري و"قسد" كلاهما، سياسة الخدمة الإلزامية كأسلوب نهب وابتزاز لناحية ضغط النفقات لأن راتب المجند إلزاميا لا يساوي ربع راتب المتطوع، فضلا عن الحصول على بدل نقدي كبير لمن لا يرغب في تأدية الخدمة العسكرية.