مَن رسَم السيناريو الحاصل الآن في فلسطين؟

2021.05.19 | 07:01 دمشق

185026.jpg
+A
حجم الخط
-A

سؤال لا يحاول أحد – منَّا- أو بتعبير أدق لا يهتم –الآن في أقل تقدير- بالإجابة عليه، لأن المشهد المتسارع يفرض نفسه أو يعيد صياغة الإطار العام للحدث بشكل دائم قريباً وبعيداً عن العواطف في وقت واحد، لقد رسمت القدس سيناريو غزة الحالي ورسمَت غزة سيناريو الضفة الغربية وأراضي الداخل، وأعاد عرب مدن الداخل عام 1948 إلى ذات الصفحة التي يقع فيها كل فلسطيني، بعد أن شطَبَتهُم اتفاقية أوسلو وأخرجتهم من المعادلة الوطنية الفلسطينية.

نشاهد السيناريو الخرائبي الذي تسير به إسرائيل وتنشره عبر مدفعياتها المتمركزة في جنوبي عسقلان مباشرة، نرى آلة قصف الأرض على المباشر في مدن القطاع، ونتابع باللحظة انهيار الأبراج العالية التي طالما كانت مقراً ومنطلقاً لأحلامِ الشباب المحاصَر في غزة من الأقربين قبل الاحتلال. جرائم الحرب هنا لها طعم آخر، إنها لا تحدث في الظل، إنها تقعُ أمام الأعين مباشرة، والضحية في هذه المعادلة لم تركن إلى الظل، بل وضعت نفسها بكل البؤس الذي تحياه في مواجهة كل الاحتمالات.

الصراع في هذه الحالة يخلق الهوية والذاكرة ويعزِّزها، ويحول العدو إلى شيء شبيه للذات - ليس بالمعنى الظالم للكلمة- ولكن إلى حالةٍ من رد الفعل الذي يناسب أساليب هذا العدو، وهنا يتحدث الذين يصفون الآخرين بعدم وضوح الرؤية أنّ صواريخ حماس هي أسُّ المشكلة وأصلُ المسألة، وأعتقد جازماً لو غابت صواريخ حماس عن المشهد وعادت مكانها حجارةُ الشارع لاتُّهِمت المقاومة –بصورتها هذه- بالخروج عن السلمية المنشودة والفكرة الحية للثورة، المعادلة هنا تقول: مُت أيها العربي الفلسطيني بصمت، فالفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت أو المعتقل.

الصراع في هذه الحالة يخلق الهوية والذاكرة ويعزِّزها، ويحول العدو إلى شيء شبيه للذات - ليس بالمعنى الظالم للكلمة- ولكن إلى حالةٍ من رد الفعل الذي يناسب أساليب هذا العدو

فكرة الاعتقال في فلسطين فيها من الكرامة ما يكفي العالم، لقد جربتُ الاعتقال بشكلٍ شخصي وأعرف تماماً معنى أن يكون الشاب بين يدي جندي مسلح يسكنه الهلع ولا تربطه مع المكان حكايا الذاكرة، مهما كانت البطولة في معانيها إلا أن الخوف في القلب يسكن، يكبر، يتسارع ويطغو في ذهن المعتقل على كل شيء، في فلسطين تبدو الأمور مختلفة ففي الاعتقال كرامة وشأن، المعتقلون مرفوعو الرأس مبتسِمو الأوجه واثقو الخطوة وكأنهم يقولون للناظر: نحن التاريخ والجغرافيا في هذا المكان.

في الخط المقابل لكل هذا تبرز تكتيكات جديدة في مفهوم الاشتباك مع المحتل، الحديث هنا عن قواعد قديمة جديدة تعيد المقاومة فرضها في مواجهة آلة الاجتياح الإسرائيلية، صاروخ عياش الذي يصل مداه إلى 250 كم، طائرة شهاب، استهداف البوارج الحربية في البحر قبالة غزة، الهجوم المباشر على آبار النفط والغاز وإخراجها من الخدمة، وهناك مقاومة سلمية تدور رحاها في حاجز حوَّارة الفاصل بين نابلس والقدس، وحاجز قلنديا والجَلمة، في ساحات البيرة وغيرها.

لقد تجاوز ساكنو الضفة الغربية والمنتفضون فيها فكرة مركزية رام الله، وما تمثله بصورة العاصمة السياسية "المؤقتة" لمركزية قرار السلطة الفلسطينية التي أنتجتها اتفاقية أوسلو وملحقاتها التي راكمت إحباطات حولت الاستراتيجي إلى تكتيكي في عقل المفاوض على مسارات الحل النهائي، تلك الإحباطات وجدت صداها في ما وراء الخط الأخضر ليس بالسببية وإنما بوحدة المصير، فتفجر ظلم السياسات الإسرائيلية على عرب الداخل احتجاجاً سلمياً مذهلاً قاد إلى إضرابٍ عام لو تراكم فعلُه سيشلُّ إسرائيل، فللإضرابات حضور في تاريخ الحركة الوطنية على أرض فلسطين منذ ثلاثينات القرن الماضي.

في تشريح المشهد بصورة أشمل يبرز أمامنا حراك عربي واسع، وصلَ به الحال في الأردن ولبنان إلى محاولات اقتحامٍ لسلكٍ شائك زرعه الاحتلال وقطَّع امتداد الجغرافيا الواحدة، يحيلُنا هذا إلى الخسارات التي شكلت ركناً أساسياً في نفس المواطن العربي اليوم في جلِّ عواصم ومدن أرض العرب، إنَّ الإحساس بفقدان الوطن القطري وضياعَهُ أو سرقتَهُ بتعبير أصح، والتأسيس لفكرة الهزيمة وفشل المشروع الذي رسمَ طيفه مع بدايات الربيع العربي وتحوّله إلى أزمات متلاحقة، فضلاً عن انشغال المواطن العربي طوال العقود الماضية بفكرة تأمين لقمة العيش والحياة بأمان وفشله اليوم بتأمينها نتيجة تلك الأزمات التي وُلِدت مع فشل مشروعِه الوطني؛ أدت به إلى رفض كل المشهد وطرح السؤال: ماذا سيحدث بي أكثر من هذا الذي يحدث؟، لهذا عادت فلسطين كمظلة جامعة تمثِّل مدخلاً حقيقياً وواضحاً ومتفَّقاً عليه إلى ميدان المشروع الأكبر القادر على ابتلاع الحالة القُطرية الصغيرة التي فشلت بتحقيق الكرامة والعدالة الاجتماعية.

إن الانتفاض لفلسطين هو انتفاضٌ على سايكس بيكو وعلى أنظمة رفعت شعار تحرير فلسطين زمناً طويلاً وبسببها ضيقت حياة مواطنيها وهم رضوا بكل ما يمكن أن يكون لأجل المعركة المؤجلة دائماً

ومن جهة أخرى إن الانتفاض لفلسطين هو انتفاضٌ على سايكس بيكو وعلى أنظمة رفعت شعار تحرير فلسطين زمناً طويلاً وبسببها ضيقت حياة مواطنيها وهم رضوا بكل ما يمكن أن يكون لأجل المعركة المؤجلة دائماً، إلى جانب الإحساس الذي سكن العربي أنه بسبب الضعف الذي هو فيه أصبح خارج أي معادلة في المنطقة، وتراجعه هو الذي أسس لوجود قوى إقليمية جديدة بنفوذ واسع وخطير في آنٍ معاً.

مسارات مختلفة تربطها فلسطين الموحّدة الواحدة التي تعيد اليوم رسم حدود الاشتباك مع الهوية أولاً والجغرافيا ثانياً، تخوض مواجهاتها على الأرض بمحاورَ مختلفة ودون مركزية مباشرة تستطيع تأمين مخرج لهذا الحراك المختلف في الشكل والمضمون عن كلِّ مراحل القضية الفلسطينية، فكل جزء يربط نجاته بنجاة الجزء الآخر، حسم الداخل قراره – فيما يبدو- فلا تراجع حتى خفض التصعيد في غزة، وحسمت غزة قرارها فلا تراجع عن الخيار العسكري حتى يقف مشروع التطهير العرقي في القدس المحتلة، وحسمَت الضفة الغربية موقفها بسلامة الآخرين ونجاتهم، يلتقي هنا المشروع الشخصي مع المشروع الوطني للحركات السياسية التي انخرطت في الصراع، والقادر على موازنة ذلك اليوم وإدراكه - والأهم التعامل معه- سيكون له حضور في المستقبل، والحديث هنا عن كل الأحزاب والحركات السياسية في فلسطين.

أكتب هذا الكلام وقَد أُتَّهَمُ أني أعيش بمأمن في بلدٍ حر بعيداً عن أدوات القتل التي تمارسها إسرائيل والأنظمة المرتبطة بها، وهذه ليست دعوة للمواجهة بدم الآخرين، لكن التفكير بمآلات ما سيحدث وما هي محددات السيناريو الأخير واجب على كل ذي رأي، فالعقل الذي يحكمنا هو العقل الذي نحكم به على الأشياء، وفيه اللبُّ الذي يقودنا نحو مختلف الخيارات التي يكون لك فيها مناطُ الأمر والتمكين.