من الثقافة إلى الكبتاغون.. انتصار محور المقاومة

2021.09.28 | 06:58 دمشق

mktbt-nwbl.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يصدمني خبر إغلاق مكتبة "نوبل" في دمشق، المكتبة التي عَملتْ ما يقرب من نصف قرن في نشر الثقافة المتنوعة، وفي تأمين الكتاب لشريحة من السوريين يرون الكتاب ضرورة مهمة في الحياة، وإن أردت أن أكون أكثر صراحة، فسوف أعترف أنني دهشت بأن هناك مكتبات في سوريا لاتزال تعمل حتى اليوم.

لكنني حزنت مثل الكثير من السوريين على إغلاقها، ليس لأنها المكتبة الفلانية، وليس لأنها متميزة ربما عن غيرها من المكتبات، بل لسبب آخر وهو أن قرار إغلاقها هو علامة أخرى من علامات كثيرة تؤشر ليس لموت الثقافة في سوريا فحسب، بل لموت سوريا.

المفارقة التي استوقفتني هو أن محاربة الثقافة على تنوعها، ومنعها، واستهدافها المعلن يجري منذ نصف قرن، أي منذ أن بدأ حافظ الأسد بدفع سوريا باتجاه الدولة الشمولية البوليسية الطائفية، فالدولة التي يريدها حافظ الأسد لا يمكنها أن تتعايش مع الثقافة بمعناها الحقيقي،  فكان لابد من وأدها، إذاً لماذا أثار تفصيل في مسيرة طويلة لموت معلن للثقافة كل هذا الضجيج؟!

في سعي حافظ الأسد للسيطرة على الدولة والمجتمع كان لابد له ليس استباحة الثقافة والسياسة والاقتصاد والدين فقط، بل كان ضروريا بالنسبة له أيضا أن يستبيح التاريخ والذاكرة ووعي الأجيال، ومن المتوقع بداهة أن ينحو طاغية مثله إلى هذا الاتجاه من صياغة التاريخ والثقافة والذاكرة، لا بل قد يكون من الحماقة أن نتوقع توجّهه باتجاه آخر، فعندما تكون السلطة هي الغاية والهدف ومعنى الوجود، يصبح الحديث عن احترام التاريخ والثقافة والوعي و.. و.. مجرد أمنيات لا وجود لها بالواقع.

لعل المكتبات هي آخر الراحلين في سوريا، فقد رحل المسرح، ورحلت السينما، ورحلت الصحافة، ورحل المثقفون والمفكرون، ولم يبق من كل هذا العالم الذي كانت تضج به سوريا إلا تماثيل رديئة لرجل بعينين ذئبيتين تنظران بسعادة إلى خراب يمتد على كامل مساحة سوريا.

منذ سبعينيات القرن الماضي بدأ رفعت الأسد وبحماية من شقيقه رئيس الدولة، بسرقة آثار سوريا والمتاجرة بها، الغريب أن النسبة الساحقة من المثقفين والسياسيين في سوريا صمتوا عن هذه الجريمة رغم فداحتها، ورغم خطورة دلالتها، فسرقة إنتاج سوريا من النفط ليس بخطورة سرقة تاريخها وآثارها، وليس بخطورة تحويل القضاء فيها إلى مؤسسة أمنية تأتمر بأمر قصر الحاكم، وليس بخطورة عسكرة التعليم.

لم يكن للدولة المسخ التي شيدها حافظ الأسد أن تعمر لولا أنه هدم كل ما يحصن المجتمع ويحميه، ويشكل عامل قوة له، مثل الثقافة والأحزاب والنقابات والصحافة والقضاء الخ. وفي مسيرة هدمه تلك كان الصمت والتواطؤ هو السمة العامة للمثقفين والمفكرين السوريين، لهذا يبدو لي أن البكاء اليوم على إغلاق مكتبة هو أشبه بلطم الشيعة على مقتل الحسين.

اليوم تعيش سوريا فصلا لا يقل خطورة عن قتل الثقافة، ولا يقل خطورة عن تدمير سوريا، وتهجير أبنائها، إنه القتل المعلن والمتعمد لروح السوريين، وتحويلهم من بشر يبحثون مثل كل شعوب الأرض عن الحرية والعيش الكريم، إلى مجرد عبيد، عبيد يقبلون بالحد الأدنى من شروط الحياة، بقليل من الخبز، وقليل من الكهرباء، وقليل من الرعاية الصحية، و..و.. وبلا كرامة أو حرية.

تتحدث تقارير عديدة عن استفحال انتشار ظاهرة "الحبحبة" (تناول الحبوب المخدرة مثل الكبتاغون)، وعن ضلوع جهات مثل حزب الله والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار الأسد في إنتاج وبيع وتهريب المخدرات

اليوم أكثر من نصف أطفال سوريا بلا تعليم، وما يزيد على 120 ألف مدرس هاجروا من سوريا، وواحدة من كل ثلاث مدارس دمرت، وثلاثة مناهج تدرس، أي أن من بقي من أطفال سوريا في مدارسهم يتعرضون لتشويه نفسي وتعليمي في مدارسهم، باختصار شديد هناك أجيال تدمر في سوريا، تدمر بكامل الإصرار والتخطيط.

اليوم أيضا تقوم أطراف تابعة للنظام السوري، وأخرى حليفة له بنشر المخدرات علنا في صفوف الشباب السوريين، وتتحدث تقارير عديدة عن استفحال انتشار ظاهرة "الحبحبة" (تناول الحبوب المخدرة مثل الكبتاغون)، وعن ضلوع جهات مثل حزب الله والفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد شقيق بشار الأسد في إنتاج وبيع وتهريب المخدرات، لا بل إن عدة جهات دولية صنفت سوريا على أنها البلد الأكثر خطورة على صعيد صناعة وتهريب المخدرات، وتطالعنا الأخبار دائما عن شحنات مصدرها سوريا وتتم مصادرتها في بلدان كثيرة.

لن أتحدث عن ارتفاع معدلات الجريمة إلى حد بات يشكل رعبا للسوريين، ولا عن الفساد الذي سيطر على كل أوجه الحياة في سوريا بدءا بلقمة الخبز وانتهاء بالقضاء، ولا عن تشكل العصابات وسيطرتها، ولا عن إرغام الناس على بيع ما تملكه للهرب من الجحيم السوري، ولا عن استملاك إيران الممنهج للعقارات في خطتها لتغيير التركيبة السكانية، ولا .. ولا.

في فيلمه "التوت البري"، الذي صدر في ديسمبر (كانون الأول) لعام 1957، وفي واحدة من أكثر لقطات الفيلم تعبيرا ودلالة، يرينا المخرج السويدي الشهير "إنغمار بريغمان" ساعة تنتصب على عمود في شارع، ساعة تعمل ونسمع صوت تكتكتها، لكنها بلا عقارب، بلا زمن.

منذ عقود تم انتزاع العقارب من الساعة السورية، وها نحن السوريين اليوم يبتلعنا هذا التيه، فنحن بلا زمن، غداً، إن قيض لهذه الساعة أن تمتلك عقارب، عندها سنعرف أي كارثة هائلة أوصلتنا لها المرحلة الأسدية.