معضلة السياسة الاقتصادية بعد كورونا والحرب الأوكرانية.. التضخم أم النمو؟

2022.12.27 | 07:30 دمشق

التضخم والنمو
+A
حجم الخط
-A

الذهاب إلى النمو أولاً ثم ترويض التضخم لاحقاً، أم ترويض التضخم أولاً ثم النمو لاحقاً؟ هذان هما الخياران الصعبان اللذان يواجهان صانعي السياسة اليوم.

يعكس الجدل الساخن حول كيفية استجابة البنوك المركزية والقطاعات المالية للتضخم الحالي المرتفع الذي نشأ نتيجة سياسة التيسير النقدي التي اتبعت، خلال فترة جائحة كورونا (كوفيد-19)، وكأحد مشكلات اختناقات سلاسل التوريد التي رافقت إعادة فتح الاقتصاد العالمي بعد انحسار الجائحة ثم أثار الحرب الروسية الأوكرانية على الاقتصاد العالمي.

التضخم ليس فقط معادياً للفقراء ولكنه أيضاً يُضعف النسيج الاجتماعي، لأنه يساهم بنقل الثروة إلى طبقات محددة في المجتمع ويسهم في تآكل الطبقة المتوسطة.، لذلك بالنسبة للعديد من  الاقتصاديين فإن ترويض التضخم هو المهمة الأولى، ومن ثم سينمو الاقتصاد تلقائياً

إنّ التضخم ليس فقط معادياً للفقراء ولكنه أيضاً يُضعف النسيج الاجتماعي، لأنه يساهم بنقل الثروة إلى طبقات محددة في المجتمع ويسهم في تآكل الطبقة المتوسطة، لذلك بالنسبة للعديد من  الاقتصاديين فإن ترويض التضخم هو المهمة الأولى، ومن ثم سينمو الاقتصاد تلقائياً.

هذه الفكرة كانت نتيجة الدرس المستفاد من علاج بول فولكر رئيس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي للتضخم الذي تسبّب في أزمة النفط بعهد الرئيس الأميركي رونالد ريغان، أوائل الثمانينيات، حيث رفع فولكر معدل الفائدة  الفيدرالية إلى 17%  وهو أعلى معدل في التاريخ، كان هذ المستوى كافيا لقتل الطلب الفعال في السوق، مما تسبّب في ركود، وتم تعليق الاستثمار والإنفاق أو إجهاضهما وارتفاع البطالة.

في كتاب قواعد اللعبة الذي كتبه فولكر بعد ذلك، اعتبر تراجع الإنتاج والبطالة المفاجئة ثمناً صغيراً يجب دفعه مقابل  مستويات  التضخم الجامحة، أدّت سياسته هذه إلى فترة انتعاش قوية وطويلة الأمد، حتى لو أنها انتهت بشكل سيئ مع الأزمة المالية العالمية لعام 2008.

يتبنّى الرئيس الفيدرالي الحالي جيروم باول نهج سلفه فولكر في مواجه التضخم بالولايات المتحدة، حيث رفع سعر الفائدة إلى أعلى مستوى لها، منذ تسعينيات القرن الماضي، وصرّح أنه مستعد لقبول مستويات مرتفعة من البطالة في سبيل خفض التضخم، ويؤيده في ذلك بنك كندا وبنك أستراليا ومعظم البنوك المركزية على مستوى العالم.

تبنّت رئيسة الوزراء البريطانية السابقة ليز تروس وجهة النظر المعاكسة، وقرّرت تحفيز النمو على الرغم من التضخم المرتفع الذي تعاني منه المملكة المتحدة، وخفض الضرائب في جميع المجالات لتحفيز الاستثمار. كانت هذه الفكرة عكس ما كان يعمل به بنك إنكلترا من رفع الفائدة في إطار حربه على التضخم، حيث كان أوّل البنوك المركزية الكبرى الذي بدء بسياسة التشديد النقدي بعد جائحة كورونا.

تم رفض الفكرة بشدة من قبل السوق باعتباره غير مسؤول ويخاطر بتدمير القوة الشرائية للبريطانيين لمصلحة فئة قليلة من الأغنياء، ما أدى إلى فوضى شديدة في الأسواق وتعرّض الجنيه الإسترليني لضغط شديد وارتفعت عوائد سندات الخزانة البريطانية إلى مستويات قياسية، مما هدّد بأزمة ديون سيادية وعجز كبير في المالية الحكومية البريطانية، الأمر الذي أدّى إلى استقالة تروس في النهاية.

خلف تروس في رئاسة الحكومة البريطانية ريشي سوناك، الذي عاد إلى الطرح الأساسي وهو التصدي للتضخم أولاً، وجعل من النمو الاقتصادي قضية ثانوية في الوقت الحالي من خلال خطة تقشف عنيفة تشمل زيادة قاسية في الضرائب وتخفيض الإنفاق الحكومي إلى مستويات قياسية.

في تركيا تم تبنّي فكرة النمو مع التضخم وهي النظرية غير التقليدية التي أطلقها الرئيس التركي، منذ عام تقريباً، والتي تقوم على أساس غريب لا يستند إلى المنطق الاقتصادي التقليدي، وهي أن السبب في التضخم هو نتيجة لأسعار الفائدة، وفقاً لذلك خفض البنك المركزي التركي الفائدة بـ900 نقطة أساس خلال عام واحد.

بعد أكثر من عام من تطبيق النموذج الاقتصادي الفريد كانت النتائج سلبية جداً، فعلى الرغم من النمو الكبير في الناتج المحلي الإجمالي، والذي يأتي كحالة طبيعية للتضخم المفرط الذي يعاني منه الاقتصاد التركي والانخفاض النسبي في معدل البطالة، إلا أنّ الثمن كان باهظاً، حيث ارتفع التضخم إلى مستويات قياسية قاربت 85% على أساس سنوي، وفق الأرقام الحكومية، بالإضافة إلى عجز قياسي في الحساب الجاري والميزان التجاري والموازنة العامة، فيما فقدت الليرة التركية نحو 30% إضافية أمام الدولار، خلال عام 2022، كل ذلك والبلاد على أبواب انتخابات مصيرية سيكون الاقتصاد فيها أكبر الناخبين.

في اليابان أيضاً، تم تبني فكرة النمو الاقتصادي على حساب التضخم من خلال الإبقاء على سياسة الفائدة السلبية والتيسير النقدي، تدافع الحكومة اليابانية عن سياستها الاقتصادية بالقول: إن التضخم الذي تشهده اليابان هو من جانب العرض السلعي وهو النوع الذي أحدثه الدولار القوي ونقص العرض المرتبط بالوباء والحرب في أوكرانيا ولهذا السبب يجب على البنك أن يستمر في مساره، لأنّ رفع الفائدة يستخدم لمواجهة تضخم من جهة الطلب وليس من جهة العرض.

وعلى الرغم من ذلك أدّى اختلاف الفرق بين السياسة النقدية في الولاياات المتحدة واليابان إلى حدوث فجوة كبيرة بين عوائد السندات السيادية للبلدين، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض الين الياباني إلى أدنى مستوياته في 30 عاماً.

البنك المركزي الأوروبي الذي تأخر كثيراً في مواجهة التضخم من أجل الحفاظ على النمو في منطقة اقتصاد اليورو والذي يتعرض لتهديدات الركود كنتيجة مباشرة للحرب الروسية الأوكرانية، قرّر أخيراً اعتبار مواجهة التضخم هي الأولوية من خلال رفع أسعار الفائدة أسوة بالبنوك المركزية الكبرى عالمياً، بعد أن ارتفع التضخم إلى ما فوق الـ10% وانخفض اليورو دون مستويات التكافؤ مع الدولار.

تبقى لكل دولة خصوصيتها في تبنّي السياسة النقدية والاقتصادية المناسبة لظروفها، ولكن لاشك أيضاً أنّ التضخم هو أخطر الأزمات الاقتصادية، بسبب تأثيره على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع

الصين التي تتبنى فكرة النمو الاقتصادي بشكل مطلق والتي شكّلت تجربتها الملهمة لكثير من الدول، ما زالت ترفض رفع أسعار الفائدة لمواجهة التضخم على الرغم من انخفاض قيمة اليوان الصيني أمام الدولار الأميركي إلى مستويات قياسية، حيث تصر الحكومة الصينية على أن الاقتصاد بحاجة إلى تحفيز النمو، خصوصاً مع ظهور مؤشرات ركود في القطاع الصناعي بسبب سياسة صفر–كوفيد التي تتبناها الحكومة.

تبقى لكل دولة خصوصيتها في تبنّي السياسة النقدية والاقتصادية المناسبة لظروفها، ولكن لاشك أيضاً أنّ التضخم هو أخطر الأزمات الاقتصادية، بسبب تأثيره على البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمع والوقت الطويل الذي يتطلبه العلاج والألم الاقتصادي الناتج عن تأخر العلاج وعواقب تخلّف الاقتصاد خلف منحني التضخم.