في إمكانية أو استحالة المهمة التركية شمال سوريا

2020.03.06 | 23:04 دمشق

20200305_2_41210477_52810341.jpg
+A
حجم الخط
-A

قد يكون الحلف الثنائي الذي يجمع تركيا وروسيا من أكثر الأحلاف تعقيدا وأكثرها صعوبة على الفهم. ولعل أحد أبرز جذور هذا التعقيد يرجع إلى طبيعة النظام والمؤسسات والسياق التاريخي لكل دولة منهما بشكل خاص، فضلا عن طبيعة الصراع التاريخي القديم بشكل عام، ولا سيما ما شهدته العقود الأخيرة في القرن المنصرم من تحولات وحالات اصطفاف مهمة، سياسية وعسكرية، ساهمت بشكل بارز في رسم محددات العلاقة بين الطرفين فيما بعد. فتركيا كانت لعقود رأس الحربة في حلف الناتو الذي تقوده أمريكا في مواجهة حلف وارسو الذي قاده الاتحاد السوفيتي. ويمكن القول إنَّ تحالف تركيا مع أوروبا والناتو في ذلك الحين سمح لها أن  تطور جيشها وأن تستفيد من منتجات العالم الغربي في العلوم الإنسانية والحضارية والتقنية والتي تركت أثرها في ثقافة وبنية وإمكانيات الدولة فيما بعد. رغم الخسائر والأزمات الكبيرة التي عاشتها البلاد نتيجة الانقلابات العسكرية المتتالية ضد الأحزاب وقادتها الذين جلبتهم صناديق الاقتراع في منتصف القرن المنصرم.

وإذا أخذنا بعين الاعتبار أنه لا يمكن قراءة السياسة الخارجية التركية بدقة دون إدراك طبيعة الحياة السياسية للدولة والتحديات التي تواجهها على الصعيد الداخلي، بسبب الارتباط الوثيق وعلاقة تلك التحديات بمواقف الدولة الخارجية، فإنه بالإمكان معرفة مدى حساسية الانقلابات في المشهد السياسي الحالي في تركيا، وهي التي يصفها الرئيس التركي اليوم بأنها أصبحت من الماضي.

تركيا التي تفتخر حاليا بأن المشاركة الشعبية في انتخاباتها تعتبر الأعلى عالميا (تقارب الـ 90%)، في الوقت الذي يبلغ التنافس الحزبي أشده حيث لم يفز رئيس الجمهورية إلا بفارق بسيط جدا على منافسيه. في نفس الوقت الذي تستمر تركيا في تحقيق إنجازات سنوية وتقدم ملموس في مجال الصناعات المدنية والعسكرية. حيث تصدّر الكثير من صناعاتها المدنية تحديدا إلى دول أوروبا وأمريكا، شملت مجالات

يقول مراقبون إن الحلف التركي-الروسي هو حلف ضرورة استدعته الظروف الصعبة التي تعيشها تركيا بسبب التخلي الأوروبي-الأمريكي الذي تمثل بإغلاق أبواب عضوية الاتحاد الأوربي أمامها

صناعة السيارات والصناعات النسيجية على وجه التحديد. كما نلاحظ مستوى الأداء والدقة العالية للصناعات العسكرية التركية كما برهنت الأيام الأخيرة للمعارك في إدلب.

في حين تعتبر روسيا الحالية وريثة الحكم الشيوعي والحزب الواحد، وباستثناء الصناعات الحربية وصناعة الغاز فهي لم تحقق إنجازات اقتصادية في مجال الصناعات المدنية أو التنمية الاجتماعية والسياسية.

يقول مراقبون إن الحلف التركي-الروسي هو حلف ضرورة استدعته الظروف الصعبة التي تعيشها تركيا بسبب التخلي الأوروبي-الأمريكي الذي تمثل بإغلاق أبواب عضوية الاتحاد الأوربي أمامها رغم التقدم الكبير الذي حققته تركيا سابقا في مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية وتطوير البيئة القانونية والمشاركة الديمقراطية، ثم سحب أنظمة الدفاع الجوي-باتريوت قبل سنوات في الوقت الذي كانت تركيا تواجه مخاطر كبيرة على حدودها الجنوبية مع سوريا. أضف لحادثة إسقاط الطائرة الروسية بالمضادات التركية والتي كانت تنذر بتصعيد كبير لولا الالتفاتة التركية نحو تحسين العلاقات مع روسيا والاعتذار عن تلك الحادثة.

يمكن القول إن المشكلة الأكبر التي تواجه الحلف التركي- الروسي ربما تكون المسألة السورية. ففي حين تصطف روسيا بشكل كامل مع نظام الأسد وتزوده بكل الأسلحة السياسية والعسكرية في مواجه الشعب السوري الذي اختارت تركيا أن تعلن اصطفافها معه والدفاع عنه أمام آلة الحرب الموصوفة دوليا بالوحشية وارتكابها جرائم ضد الإنسانية.

 هذه المواجهة التي بدأت نيرانها تشتعل في الأسابيع الأخيرة. وبدأ كل طرف، تركيا وروسيا، يلقي اللوم على الآخر فيما يحدث في إدلب. حيث تقول تركيا إن نظام الأسد لم يلتزم بحدود اتفاق سوتشي وهو لايتحرك خطوة بدون إذن روسيا. فيما تقول روسيا إن تركيا لم تلتزم بما وعدت به، فلم تفتح الأتوسترادات الدولية M4 و M5 ولم تؤمّن  المنطقة من الإرهاب، ولم تفصل المقاتلين المعتدلين عن المتطرفين.

لكن من الصعب أيضا على تركيا التراجع أو عمل استدارة كبيرة بعيدا عن حليفها الروسي "وهذا قد ينطبق على روسيا أيضا"، حيث تم تدشين عدد من المشاريع الاقتصادية الكبرى بين البلدين، على رأسها مشروع الغاز العابر للقارات، وشراء منظومات إس 400 الروسية للدفاع الجوي، الأمر الذي عارضته أمريكا بشدة، وأوقفت بناءً عليه التعاون مع تركيا في مشروع تطوير المقاتلة F35. في الوقت نفسه الذي ابتعدت فيه تركيا عن حلفائها الأوروبيين وأمريكا خلال العقد الأخير بسبب سياسة التخلي كما تقول تركيا وبسبب تحول تركيا للتحالف مع روسيا كبديل، وبسبب تبني الخطاب العدائي وتراجع تركيا عن القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان كما يقول الغرب.

وإن تمعنا النظر في الظروف الداخلية التي تعيشها تركيا نجد أن التحديات الداخلية قد تكون أكثر تعقيدا. فأي انخراط أكبر في القضية "الحرب" السورية ضد نظام الأسد وروسيا قد يعني مستقنعا لتركيا وجيشها وآثارا سلبية على اقتصادها وأمنها الداخلي. في الوقت الذي يعيش في تركيا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون سوري في ظروف أفضل نسبيا من أي بلد عربي. لكن مع الأسف يعيش هؤلاء عموما حالة استقطاب وضغط دائمين نتيحة التنافس الحزبي الداخلي وجعلهم شماعة وورقة سياسية للتفاوض. هؤلاء السوريون الذي سيعيشون ضغوطات أكبر إن انخرطت تركيا في حرب طويلة شمال سوريا، وسوف تزداد المطالبة بترحيلهم أو إرسال شبابهم إلى الجبهات بدلا من الجنود الأتراك. السوريون أنفسهم الذين يَعتبر "بعضهم أو الكثير منهم" أن تركيا لم تكن على مستوى التعهدات أو الخطوط الحمراء التي أعلنتها خلال السنوات الماضية وينتقدون كثيرا التردد التركي وعدم الحزم في اتخاذها القرارات المناسبة.

وإذا عدنا إلى موازين القوة بين البلدين، تركيا وروسيا، فقد يميل ميزان القوة  بشكل ما  لصالح روسيا. وكأي زعيم في بلد لايقيم وزنا لخيارات شعبه، فإن بوتين في موقع يستطيع من خلاله أن يتحكم بشكل أكبر بمستقبل هذه الشراكات، بخلاف أردوغان الذي يحاول تهيئة الشارع التركي بشكل دائم قبل الذهاب إلى خيارات صعبة حتى يضمن النجاح السياسي في أي استحقاق قادم. يعكس هذه الحالة التصريحات اليومية للقيادة التركية حول الملف السوري، هذه التصريحات موجهة أساسا للشعب التركي وليس للشعب السوري بالطبع، بهدف تحشيده لصالح سناريوهات قادمة.

بالمقابل فإن تركيا تدرك أن سيطرة روسيا ونظام الأسد على إدلب هي مقدمة لاستعادة سيطرته على مناطق عمليات درع الفرات وغصن الزيتون ونبع السلام. بالتالي انتقال المشاكل إلى داخل الأراضي التركية. المشاكل بطبيعتها الأمنية والسياسية، مما يعني خسارة الرئيس أردوغان أحد أهم ملفات سياسته الداخلية.

أما بالنسبة للسوريين في شمال غرب سوريا، فإن خيار عدم تدخل تركيا بالنسبة لهم يعني تهجيرهم وهدم مدنهم وقراهم وقتلهم بأشد أنواع الأسلحة الفتاكة. وحشرهم في مخيمات على الحدود التركية بلا أي مقومات لحياة كريمة. هؤلاء السوريون الذي أعلن بشار الأسد على الدوام أنه يعتبرهم إرهابيين لأنهم فضلوا الانتقال إلى إدلب بدلا من البقاء تحت سيطرته. لكن سوريا أصحبت، كما قال الأسد، أكثر انسجاما بدونهم.

لكن هذا السيناريو الأخير، أي ذهاب تركيا لمواجهة حقيقية مع روسيا والنظام وإيران، يعني بداية حملات الضغط على السوريين أنفسهم في تركيا. حيث، وأسوة بما اتخذته بعض الحملات الإعلامية السابقة من شعارات، فإن كثيرًا من أبناء الشعب التركي قد يقول: لماذا أنتم في بلادنا وجنودنا يقاتلون في سوريا. اذهبوا وقاتلوا في بلدكم. رغم أن تعداد الجيش الوطني الذي شكلته تركيا والفصائل السورية المسلحة يتجاوز عشرات الآلاف، ويمثلُ رأس حربة العمليات الجارية حاليًا.

وقد تكون أكبر المشاكل والتحديات التي ستواجهها القيادة التركية في المستقبل إن أُجبِرت على الخيار العسكري، أولئك الجنود الأتراك المتواجدون في النقاط التركية التي رفضت تركيا سحبهم منها سابقا، والذين باتوا، مئات الجنود، واقعين ضمن سيطرة قوات روسيا ونظام الأسد وإيران. هؤلاء الذين سيكونون أداة مباشرة يستخدمها بوتين لِلَي ذراع أردوغان في سوريا.

أثناء هذا كله، فإننا نلحظ إعادة التفاتة في شكل وطبيعة التحالفات التركية. فهنالك مؤشرات على إعادة تسخين تركيا لعلاقاتها مع أمريكا والناتو لكسب "دعم أو تأييد ما حقيقي" في مواجهة محتملة مع روسيا ثاني أكبر قوة عسكرية في العالم على الأرض السورية. هذه الالتفاتة ظهرت بعض آثارها مؤخرًا في رفع وزارة الخزانة الأمريكية الأربعاء 12 شباط العقوبات عن ثلاثة وزراء أتراك، هم وزير الطاقة والدفاع والداخلية.  فيما يقول المسؤولون الأمريكيون إن بلادهم تقف إلى جانب حليفتها في الناتو. كذلك يصرح قادة أوروبيون آخرون. لكن من الواضح حتى الآن أنه لا أمريكا ولا أوروبا مستعدة لزيادة انخراطهم في هذه المواجهة، ولا هم مستعدون لتزويد تركيا بحاجتها من منظومات الدفاع الجوي، الذي جعل الأخيرة تتخذ قرارا بفتح المجال أمام اللاجئين المتواجدين على أرضها للتوجه نحو أوروبا.

أخيرا؛ يتحدث القادة العسكريون الأتراك عن خطط ب و ج لمواجهة الحملة العسكرية شمال سوريا، وأنه لن يكون بمقدور طائرات روسيا والأسد التحليق بحرية في سماء إدلب وحلب، وهذا ما أثبتته إلى حد كبير الطائرات التركية بدون طيار المعروفة بـ بيرقدار ومنظومات التشويش. كما يتحدثون عن ردود غير متوقعة إن تم استهداف الجنود الأتراك في سوريا (تم الحديث عن التوجه إلى دمشق واعتقال الأسد. جاء ذلك على لسان زعيم الحزب القومي التركي دولت باهشلي). لكن يبقى الجانب العملي لهذه التهديدات مرهونًا بعدة محددات، أهمها متانة الجهة الداخلية التركية ودعمها لخيارات قادتها، وانهيار وقف إطلاق النار  وعودة موجات اللجوء من جديد، والاستجابة الأوروبية والموقف الأمريكي والناتو مما يجري، إضافة إلى مدى استعداد روسيا وتركيا للتضحية بمستقبل علاقتهما الاستراتيجية، وهو الأمر الذي يظهر أنه مستبعد كثيراً كما أظهرت القمة الأخيرة التي جمعت أردوغان مع بوتين.