عندما وصفَ حافظ الأسد الموظّفين العصاميّين بالحمير

2021.06.20 | 06:29 دمشق

02551520-0610-43bf-8db8-7e165bf8ea31.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد انقلاب حافظ الأسد واستتباب مفاصل الحكم له دخلت سوريا نفقًا مظلمًا على مستوى الحالة المعيشيّة للمواطن السّوري، وكان كلّ ذلك يُعزى في الخطاب الرّسمي إلى المؤامرة الكونيّة التي تحيكها الإمبرياليّة والصّهيونيّة العالميّة، وفي الخطاب الإعلامي تتمّ تعبئة المواطن بأنّ ما يعيشه من ضنك وشظف هو ضريبة الصّمود والتّصدّي والدّفاع عن فلسطين.

 

  • التّدهور المتسارع

ازدادت الأمور سوءًا مع تدهور اللّيرة السّوريّة في بداية التّسعينيات إذ كان صرف سعر الصرف حتى النصف الثّاني من الثّمانينيات يساوي اثنتي عشرة ليرةً سوريّةً للدّولار الواحد، وفي عام 1990م أصبح الدّولار الواحد يساوي ثمانيةً وأربعين ليرةً سوريّة، وفي عام 1995م أصبح سعر الدّولار الواحد اثنتين وخمسين ليرة سوريّة.

غدا الموظف الذي لا يرتشي ولا يختلس هو الاستثناء الشّاذ من القاعدة العامة في الحالة الوظيفيّة في سوريا الأسد

في النّصف الأوّل من التّسعينيات كان راتب الموظف يتراوح بين 2000 و3500 ليرة سورية أي ما بين واحد وأربعين واثنين وسبعين دولارًا، وهو ما لم يكن يكفي الموظف فعليّا إلّا بضعة أيّام من الشّهر ليقضي بقيّة شهره متنقّلًا بين الدّين أو العمل في وظيفة ثانية أو سلوك سبيل الفساد من اختلاس ورشوة؛ هذا السّبيل الذي غدا ميسّرًا وطاغيًا ومعتادًا حتّى غدا الموظف الذي لا يرتشي ولا يختلس هو الاستثناء الشّاذ من القاعدة العامة في الحالة الوظيفيّة في سوريا الأسد.

 

  • في مجلس الوزراء

قبلَ سبعة عشر عامًا تقريبًا كنتُ في زيارة إلى أحد علماء دمشق الذين أحبّهم وأجلّهم والتقيتُ عنده برجلٍ أراد الاستئذان فور وصولي غير أنّ الشّيخ طلب منه البقاء ليعرّفني إليه.

كان هذا الرّجل أحد أقرباء الشّيخ ووزيرًا لفترة قصيرة في النّصف الأول من التّسعينيات في حكومة "أبو مفلح" محمود الزّعبي، ولم أذكر اسم الشّيخ أو قريبه هذا كونهما ما يزالان مقيمَين في دمشق ولم يغادراها.

طلب منه الشّيخ أن يحكي لي الموقف الذي جرى بينه وبين حافظ الأسد في مجلس الوزراء مؤكّدًا له أنني شخص موثوق ويمكن أن يتحدّث أمامي بأريحيّة مطلقة، وكان لا بدّ من هذه التّأكيدات والتّوثيقات قبل أن ينطلق أيّ أحدٍ بحديثٍ في دولة الأسد العتيدة؛ فقال:

"في إحدى أيّام عام 1993م أبلغَنَا رئيس الوزراء المهندس محمود الزّعبي "أبو مفلح" أن نجهّز أنفسنا لاجتماع مهمّ لمجلس الوزراء سيترأسه سيادة الرّئيس حافظ الأسد، فهو يريد أن يلتقي الوزراء ويسمع منهم ويتابع معهم بعض القضايا.

وفعلًا انعقدَ المجلس وجلس حافظ الأسد كعادته لا يتحدّث إلّا قليلًا، والرّهبة هي المسيطرة على الجوّ كلّه في اللّقاء والحذر من أيّة كلمة يمكن أن تودي بقائلها خلف الشّمس أو خارج مجلس الوزراء على أقلّ تقدير، وعندما سأل: ما هي طلباتكم؟ قلت له: يا سيادة الرّئيس أريد أن أطلب شيئًا ولكن أطمع أن تعطوني الأمان أولًا.

فنظر إليّ حافظ الأسد مستغربًا وقال: طبعًا يا ابني عليك الأمان؛ قول شو بدّك؟

فقلت له: يا سيادة الرّئيس أطمع من سيادتكم أن تتكرّموا بزيادة الرّواتب للموظّفين، فالرّاتب لا يكفي أبدًا أكثر من أسبوع لأسرة متوسطة العدد متوسطة المعيشة.

فسأل حافظ الأسد: وكم راتب الموظف؟ فقلت له: وسطيًّا ثلاثة آلاف ليرة سورية؛ فنظر إلى الوزراء قائلًا: صحيح يللي بيقولوا الرّفيق؟ فقال بعض الوزراء: نعم صحيح يا سيادة الرّئيس.

هنا سأل حافظ الأسد: إذا كان الرّاتب ما بيكفي لأكثر من أسبوع فكيف الموظفين مدبرين حالهن؟ فقلت له: يا سيادة الرّئيس مدبرين أمورهم من خلال الفساد الوظيفي والاختلاس والرشوة.

فسأل حافظ الأسد: وكم نسبة المرتشين والمختلسين يللي مدبرين أمورهم بهالشكل؟ فقال أحد الوزراء: والله يا سيادة الرّئيس النّسبة كبيرة ممكن توصل لتسعين بالميّة.

عندها قال حافظ الأسد: بدكن نزيد الرّواتب مشان هالعشرة بالميّة الحمير يللي مو عارفين يدبروا حالهن؟!! وضحك ضحكةً خفيفة وقهقه جميع الوزراء مجاراة لضحكة السيّد الرّئيس وانتهى الموقف وأغلق ملفّ زيادة الرّواتب".

وهكذا عبّر حافظ الأسد عن نظرته إلى الموظفين العصاميّين ووصفهم بأنّهم مجرّد حمير لا يعرفون كيف يدبّرون أمورهم في منظومة الفساد المتكاملة التي بناها وصنعها على عينه.

 

  • تدليس غير بريء

أمام منظومة الفساد وانتشار الرّشوة انتشرت عبارات ومسلسلات وأعمال فنيّة تحمّل النّاس مسؤوليّة الفساد المستشري لترسيخ فكرة أساسيّة مفادها؛ المشكلة ليست في النّظام بل المشكلة في الشّعب فالشّعب هو الفاسد.

وبعيدًا عن تفكيك هذه الفكرة والحديث عن البنية الأخلاقيّة للشعوب وقابليّتها للفساد؛ إلّا أنّ العبارة تستبطن تبرئةً للّنظم الحاكمة من الفساد الطّاغي وتحميل مسؤوليّته للشّعوب المقهورة، وهي فكرةٌ تنطوي على قراءة مجتزأة لمشهد الاستبداد السّياسي.

لا تغدو الأعمال الفنيّة والمسلسلات النّاقدة التي تسلّط الضّوء على قضايا الفساد والاختلاس والرّشوة أكثر من وسائل يستفيد منها النّظام في حرف النّظر عن أصل الدّاء

النّظام الاستبداديّ لا يستقرّ له الأمر إلّا على منظومة متكاملة من الفساد في مختلف الجوانب، فلذلك مهما رفع من شعارات النّزاهة والمحاسبة في العلن فهو يعمل في الحقيقة والواقع على إفساد البيئة الاجتماعيّة وتدمير المنظومة القيميّة، فهو الذي ينشر التّطبيع مع الاختلاس ويعزّز ثقافة الرّشوة حتّى يغدو العصاميّ الذي بقي قابضًا على جمر المبادئ والقيم رافضًا أن يرتشي أو يختلس مهما عضّه الجوع وافترسته أنياب الحاجة مجرّد حمار لا يفهم كيف تدار الأمور ولا يعرف كيف يتدبّر أموره في هذه الغابة المسمّاة دولة.

وهنا لا تغدو الأعمال الفنيّة والمسلسلات النّاقدة التي تسلّط الضّوء على قضايا الفساد والاختلاس والرّشوة أكثر من وسائل يستفيد منها النّظام في حرف النّظر عن أصل الدّاء وهو الاستبداد وتسليط الضّوء على إحدى نتائجه وهي الرشوة والاختلاس محمّلًا الشّعب مسؤوليّة ما آلت إليه الأمور من سوء؛ والشّعب يسعد برفع مستوى النّقد متخيّلًا أنّه ينفّسُ شهقةً من الحريّة وما درى أنّ هذا المستوى من النّقد ليس سوى حرفٍ للأنظار عن المرض العضال باتّجاه أحد أعراضه ابتداءً من مسلسل مرايا وصولًا إلى مسلسل يوميات مدير عام وما بينهما وما شابههما.