عن أي فقراء تتحدث يا رامي مخلوف؟

2020.05.09 | 00:12 دمشق

580.jpg
+A
حجم الخط
-A

آخر ما يجب الانتباه له، في الظهورين المتتاليين لرمز الفساد الأهم في سوريا "رامي مخلوف"، هو موضوع المبالغ المستحقة على شركة الاتصالات التي يملكها "سيريتل"، وسيكون من السذاجة فعلاً أن نصدق: أن تصعيد الخلاف إلى حد المواجهة العلنية، بين العائلتين اللتين تنهبان سوريا (عائلة محمد مخلوف، وعائلة حافظ الأسد) منذ عقود، سببه ضرائب لا تتجاوز قيمتها مئتي مليون دولار أمريكي فقط لا غير. فهل هذا يُذكّر بمزامير داود، وهل يذكر حديث الضرائب هذا بالمثل السوري المعروف "اللي يعرف يعرف، واللي ما يعرف يقول كف عدس".

ولكيلا يلهينا سماع المزامير ولا كف العدس، أرى -من المهم لفهم ما يحدث بين هاتين العائلتين- أن نتناول بالوصف والتحليل بنية السلطة التي بناها حافظ الأسد خلال عقود حكمه الثلاثة لسوريا، هذه البنية التي لا تزال تتحكم بسوريا وتحكمها حتى اللحظة، رغم مضي عقدين على وفاة مهندسها، ورغم مضي عقد على اندلاع ثورة السوريين ضدها.

وعليه يمكن القول من دون إطالة ولا تفصيل: إن قوة هذه السلطة الفاعلة قد جاءت من ثلاثة مصادر رئيسة:

  1. العلاقات الدولية التي أقامها حافظ الأسد بوعي عميق لأهمية موقع سوريا الجيوسياسي العام واستثماره الماهر له، إضافة إلى خصوصية وجود الكيان الإسرائيلي بجوار سوريا وأثره فيها.
  2. تضخيم المؤسسة العسكرية السورية، وتعزيز قوتها، وتحويلها من جيش الوطن الوطني إلى جيش العائلة.
  3. تضخيم المؤسسة الأمنية، وتعزيز قوتها، وتمكينها من إحكام سيطرتها على مفاصل السلطة، ومفاصل المجتمع السوري كلها.

إن مصادر القوة الثلاثة هذه، هي التي قد أعطت حافظ الأسد ما يكفي من الطمأنينة؛ لكي يعيد صياغة السلطة في سوريا بالطريقة التي يريدها؛ فهدم مرتكزات الدولة القديمة كلها، مبقياً على هيكلها العام فقط، واستبدل بجوهر الدولة ومؤسساتها ووظيفتها بنيةً مافيوية ذات رأس وحيد حاكم ومتحكم، هو: عائلة الأسد. ثم راح يدفع أذرع هذه البنية المافيوية لكي تمتد في كل الاتجاهات، وفي كل التفاصيل. ثم بعد أن اطمأن- مرة أخرى- إلى تمكنه من تسوير السوريين، ومن قدرته على تفتيتهم وتحطيمهم، أعلن المعادلة الوحيدة التي تحكم سوريا فاقعة، وهي: لا سلطة تعلو فوق سلطة العائلة.

هذه المعادلة التي تكاملت في وعي حافظ الأسد، فترسخت في الواقع، وأمسى الجيش جيش حماية سلطة العائلة، والأجهزة الأمنية أجهزة حماية سلطة العائلة، والبرلمان برلمان تشريع مصالح العائلة، والمؤسسات الدينية مؤسسات خدمة سلطة العائلة وتبريرها، والقضاء قضاء حماية العائلة وتمكينها، والاقتصاد قد تحول إلى اقتصاد العائلة، وقد صار ما يذهب منه إلى الشعب عطاء ومنحة، أما من يدير عمليات النهب المنهجي العميم للسوريين واقتصادهم ووطنهم، فهو لا بد أن يكون من العائلة؛ لذلك اختار حافظ الأسد منذ البداية شقيقه رفعت الأسد، وشقيق زوجته محمد مخلوف.

أما بعد مغامرة رفعت الأسد- التي قام بها على ضوء الوضع الصحي المتردي لحافظ الأسد سنة 1984، وقد أراد أن يقفز منها إلى مركز التحكم الأول في سوريا، لا سيما أنه من مركز العائلة، وأنه قائد أكبر قطعة عسكرية في الجيش السوري وأحدثها تسليحاً، وأنه يمتلك الكثير من المال المنهوب- فقد وجد حافظ الأسد نفسه في مواجهة أخيه، تلك المواجهة التي كادت أن تودي إلى دمار سوريا، لولا أن تدخلت أطراف دولية فاعلة ومؤثرة، استطاعت إقناع رفعت بالخروج من سوريا، بعد أن حمل معه ثروة ضخمة. ولقد أدى خروج رفعت إلى تركز مهمة إدارة النهب المتواصل بكاملها في يد محمد مخلوف.

كان حافظ الأسد قادرا على ضبط النهب وتوزيعه، لكن وريثه القاصر انفلت في نهبه، وأفلت قطعان اللصوص التي تحيط به، هكذا أصبحت عائلة محمد مخلوف هي عصب الاقتصاد السوري، تطرد من تشاء، وتشارك عنوة من تشاء، وترسم ملامح الاقتصاد السوري بكامله.

ثم عندما اندلعت المظاهرات في سوريا معلنة ثورة السوريين ضد حكم هذه العائلة وتحكمها بكل تفاصيل حياتهم، استنفرت مصادر القوة الثلاث لحمايتها، فتوضع الجيش في مواجهة الشعب، وبدأت أجهزة الأمن حملات اعتقالها وقتلها لمن ثار ضد العائلة، واستنفرت أطراف دولية عديدة؛ لكي تحمي العائلة مباشرة أو مداورة.

وقد كانت إيران في مقدمة الدول التي سارعت إلى التدخل العسكري المباشر، هذا التدخل الذي لم يكن لحماية العائلة فقط، بل كان يستند أساساً إلى قناعة ملالي إيران: إن الظرف الذي تمر فيه سوريا هو فرصتها الذهبية؛ لكي تحكم قبضتها على سوريا من أسفلها إلى قيادتها، كي لا يكون لفقدان شخص ما، حتى لو كان الرئيس، تأثير كبير في قبضتها المحكمة على سوريا.

ولقد تضمنت الخطة التي وضعها قاسم سليماني، وأشرف عليها ميدانياً، ثلاثة مرتكزات أساسية:

  1. عدم السماح بالوصول إلى حل يوقف ثورة السوريين.
  2. دفع الاصطفاف الطائفي داخل سوريا إلى أقصى ما يمكن.
  3. تحطيم البنيات السورية التي يمكن أن تلعب دوراً معيقاً لخطتها، وإنشاء بدائل عنها.

أما الركيزة الثالثة التي هي تحطيم البنيات السورية وإنشاء بدائل عنها، فهي بيضة القبان، ومن أجلها بدأت إيران بنقل تجربة باسيجها، ونقلت ميليشيا حزب الله في لبنان وتجربتها إلى سوريا؛ فبدأت بإنشاء ميليشيا فاشية طائفية على القياس، لا تخضع لأيٍّ من المعايير التي تخضع لها الجيوش أثناء الحرب، وخططت لها أن تكون أقوى من الجيش، وأن تكون مرجعيتها ليست السلطة السورية، إنما إلى أشخاص تابعين لإيران ولمشروعها، وقد كلفت هذه الميليشيات بارتكاب المجازر بحق المدنيين، وسمحت لها بالنهب واستباحة كل ما تجده أمامها، وأعطتها صلاحيات تفوق صلاحيات الجيش، بل لقد وضعت الجيش في خدمة هذه الميليشيات في مناطق وجودها.

ومن ضرورات خدمات هذه الخطة برزت الحاجة إلى شخصيات محلية موالية لإيران؛ كي تلعب دورها في إرساء هذه الصيغة الجديدة؛ فكانت ميليشيا: هلال الأسد، ومحمد الأسد، وأيمن جابر، ورامي مخلوف، وصقر رستم...إلخ.

ولقد ذكّر رامي مخلوف في حديثه بشار الأسد بالدور الذي لعبه بدعم هذه الميليشيا، وهو يذكّر السوريين أيضاً بذلك دون أن يقصد. لكن الرسالة الأهم التي قالها رامي مخلوف، هي: أن كل هذه الأموال المنهوبة من مال السوريين ودمهم، هي حصيلة نهب عقود "جني عمره" وجني عمر عائلته، فهل يجوز يا سيادة الرئيس أن تستولي عليها!!

أما الفقراء الذين يذرف رامي مخلوف دموعه من أجلهم فهم أولئك الذين اشتراهم بالمال المنهوب منهم لكي يدمروا سوريا لحماية العائلة وسلطة العائلة.

إنها سوريا الأسد...!! إنها البلد الذي قادته عائلة مهووسة بالسلطة والثروة إلى هذا الدمار كله، فعن أي فقراء تتحدث يا رامي مخلوف، وبمن تستغيث؟!.

كلمات مفتاحية