عقوبات غربية لن تردع

2022.03.04 | 05:25 دمشق

2022-02-25t092056z_1100565121_rc2xqs9a4b0h_rtrmadp_3_ukraine-crisis.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد أن اعترفت روسيا بجمهوريتين انفصاليتين شرق أوكرانيا، ومن ثم غزوها لأوكرانيا في حرب تخترق وتتجاوز كل القوانين الدولية، ودخول حشود من الجيش الروسي إلى الأراضي الأوكرانية، وقصف هذا الجيش لمناطق سكنية وبنى تحتية دون رحمة – كما فعل في سوريا سابقاً – رأى الحلفاء الغربيون في حلف الناتو، أن أفضل وسيلة للضغط على الروس ورد هجماتهم هي فرض عقوبات على روسيا، غالبها سيكون له طابع اقتصادي، واعتقدت أن هذه الخطوة التي يمكن أن تتوسع يوماً وراء يوم في الغالب، وستكون رادعاً لروسيا لوقف حربها وسحب جيشها إلى قواعده من جديد، وتخلي القيصر الروسي عن هدفه وحربه المجنونة.

بدأ الحلفاء الغربيون بأول خطوة تحمل طابع العقوبات فأوقفت ألمانيا عملية التصديق على خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي ينقل غاز روسيا إلى ألمانيا وأوربا، ثم أتبعها التحالف الغربي باستبعاد العديد من البنوك الروسية من نظام "سويفت" الدولي للدفع، وقررت الولايات المتحدة وفرنسا وكندا وإيطاليا وبريطانيا ومفوضية الاتحاد الأوروبي وألمانيا عزل هذه المؤسسات عن التدفقات المالية الدولية، ثم منعت هذه الدول وغيرها الطائرات الروسية الحربية والمدنية من استخدام أجوائها، وقررت وقف الرحلات المتجّهة إلى روسيا، كما أكّد مسؤولون أوروبيون أن هناك حزمة من العقوبات يجهزها الاتحاد الأوروبي ضد روسيا ستصدر تباعاً.

لن يهتم النظام الروسي إن كلّفت الحرب والعقوبات روسيا مئة أو مئتي مليار، فهو سيواصل عنجهيته وجنونه بغض النظر عن الكلفة المادية والاقتصادية، ولن يهتم إن انخفض مستوى الدخل للشعب الروسي، أو تراجع سعر الروبل، أو شحّت المواد الأولية، أو سقطت شرائح جديدة من الروس في مستنقعات الفقر والجوع، ولن يأبه إن توقفت معامل أو أغلقت ورشات، فما يهمه أساساً استمرار المُلك وفرض السلطة الديكتاتورية والمكانة الحربية العالمية.

على الرغم من أن بعض الدول قررت تقديم مساعدات عسكرية إلى أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي، كهولندا وألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة وغيرها، إلا أن هذه المساعدات جاءت متأخرة قليلاً من جهة، وخجولة لا تتناسب مع ما يحشده الوحش الروسي لغزو أوكرانيا من جهة أخرى، ولا يمكن لهذه المساعدات البسيطة أن تقلب معادلة القوة وحدها، وإنما يمكن أن تساهم فقط في كسب الوقت وتأخير هزيمة الأوكرانيين العسكرية، باعتبار أن عدد وعتاد الجيش الروسي يفوق بأضعاف مضاعفة عدد وعتاد الجيش الأوكراني، خاصة وأن روسيا لن تتردد في استخدام كل مخزون السلاح الذي لديها، بما فيه أسلحة التدمير الشامل، لتحقيق هدفها، حتى لو تركت أوكرانيا أرضاً محروقة عن بكرة أبيها.

في الغالب الأعم لن ينجح سلاح العقوبات مع روسيا، فالتفكير الروسي سيتعطل أمام آلة الحرب والعنف، وستزيد هذه العقوبات من تعنّت وإصرار روسيا على المضي بخطتها حتى لو كلفها ذلك تجويع الشعب الروسي كلّه، أو مقتل نصف جنود الجيش الروسي، فالقيصر لا يرى سوى ذاته وسيحاول بكل الوسائل التمسك بقراره ليثبت للعالم أنه على صواب وأنه قادر أن يغير موازين العالم وقادر أن يواجه القوى الكبرى.

من جهة ثانية، لا بد من ملاحظة أن الرئيس الروسي عمل منذ عام 2015 على إنشاء أنظمة معالجة مدفوعات خاصة بروسيا، كبديل لجمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك "ما يعرف باسم سويفت" لأنه كان قد هُدِّدَ سابقاً بطرد روسيا منه، وقامت موسكو بإطلاق منصة الدفع "مير" بعد أن بدأت الولايات المتحدة بفرض عقوبات على روسيا خلال السنوات العشر الأخيرة.

ومن جهة ثالثة، لا بد من ملاحظة أن روسيا تمتلك احتياطياً كبيراً من النقد، وراكمت في بنوكها نحو 700 مليار دولار نقداً، كما راكمت رصيداً من الذهب تبلغ قيمته 130 مليار دولار، وتشير بعض الأرقام إلى وجود أكثر من 5 آلاف طن من الذهب المتراكم في البنوك الروسية رغم كل العقوبات التي فُرضت على روسيا خلال العقد الأخير من قبل أوروبا والولايات المتحدة، الأمر الذي يؤكد بدوره على أن العقوبات الاقتصادية لن يكون لها ذلك التأثير الرادع على روسيا ونظامها.

لن يهتم النظام الروسي إن كلّفت الحرب والعقوبات روسيا مئة أو مئتي مليار، فهو سيواصل عنجهيته وجنونه بغض النظر عن الكلفة المادية والاقتصادية، ولن يهتم إن انخفض مستوى الدخل للشعب الروسي، أو تراجع سعر الروبل، أو شحّت المواد الأولية، أو سقطت شرائح جديدة من الروس في مستنقعات الفقر والجوع، ولن يأبه إن توقفت معامل أو أغلقت ورشات، فما يهمه أساساً استمرار المُلك وفرض السلطة الديكتاتورية والمكانة الحربية العالمية.

لم تكن ناجعة تلك العقوبات التدريجية التي فُرضت من قبل الغرب ضد روسيا، كما لم تكن ناجعة العقوبات التي فُرضت على النظام السوري خلال أكثر من عقد ونصف بسبب حربه المُدمّرة المقيتة ضد شعبه، كما لم تُفلح العقوبات التي فُرضت على إيران خلال أكثر من عقدين بسبب برنامجها النووي وأعمالها الإرهابية حول العالم، ولم تُفلح عقوبات سابقة فُرضت على العراق بسبب حرب الخليج، وعقوبات فُرضت على كوريا الشمالية بسبب برنامجها النووي وتجاربها الصاروخية وإرهابها الدولي، وعقوبات فُرضت على كوبا بسبب تحالفها مع الاتحاد السوفييتي ودعمها لأنظمة تمييزية، وعقوبات فُرضت على بورما بسبب التطهير العرقي الإرهابي الذي قامت به، وعقوبات فُرضت على جنوب أفريقيا بسبب نظام الفصل العنصري "الأبارتيد" وغيرها من العقوبات التي فُرضت على دول أخرى.

من الواضح أنه لن تصلح العقوبات الاقتصادية مع الروس، فهم قادرون على تجاوز تأثيراتها، أو على الأقل تأجيلها، كما أنهم لا يأبهون أساساً بنتائج تلك العقوبات التي ستطول الشعب والدولة، وبالتالي لابد للحلفاء الغربيين إن أرادوا أن يوجعوا روسيا ويجبروا الرئيس الروسي على وقف حروبه، التي طالت خلال عقد أكثر من بلد من بينها سوريا وآخرها أوكرانيا، أن يفكروا بعقوبات أقصى، لا تقتصر على الجانب الاقتصادي، بل عقوبات مبتكرة أقسى، منها على سبيل المثال لا الحصر، مساعدة المقاومة الشعبية الأوكرانية بقوّة وجدّية، وتفعيل المحاكم الدولية التي يمكن لها أن تُحاكم بوتين وزبانيته وكل مجرمي الحرب الروس، وتحجيم التصدير والاستيراد من وإلى روسيا إلى أقصى حد ممكن، وسحب الاستثمارات الغربية من روسيا، ووقف المشاريع المشتركة، ومعاقبة من يتعامل تكنولوجياً مع روسيا، والضغط لإعادة تفعيل مسار الحل السياسي في سوريا، وعدم الترحيب بروسيا في المؤتمرات الدولية من أجل تحقيق عزل شامل وكامل لروسيا، لتبقى روسيا شبه وحيدة ومعزولة عن العالم.

ومن الصعب وغير المنطقي ولا المعقول أن يُصعّد الحلفاء الغربيون مع روسيا عسكرياً، لأن نهاية مثل هذا التصعيد خطيرة وكارثية، لكن من الضروري التصعيد في كل شيء آخر، وعزل هذا الديكتاتور الذي جعل دولته في أعين البشرية دولة مارقة شريرة مجرمة، وخاض حروباً وقتل بشراً، ودون هذا التصعيد في الغالب الأعم لن يستمر في غيّه وحسب، بل سيُفسح له المجال لتكرار ما يحصل في دول أخرى، وتنفيذ مخططات أكبر.