سيكولوجيا المشاهير

2023.07.20 | 06:58 دمشق

1
+A
حجم الخط
-A

هناك ما يدفعنا للتفكير في أن البنية النفسية للإنسان المعاصر في عالم "ما بعد السوشيال ميديا" هي بنية مدفوعة بشكل أساسي و"جوهرياً" بما نسميه "سيكولوجيا المشاهير"، حيث إن رغبة الشهرة باتت تتفوق على جميع الرغبات الإنسانية الأخرى، بما فيها الرغبة الجنسية المرتبطة بالحياة. والترجمة النفسية للشهرة تعني أن الإطار الذي نضع فيه صورة الذات أمام الجمهور قد أصبح واسعاً جداً إلى درجة تغيب معه الذات الحقيقية/الواقعية في الصورة الوهمية/ الافتراضية المرئية للعموم، وتصبح صورة الإنسان المشهور أهم من الشخص ذاته، بل تحكم سلوك الشخص ونظرته لنفسه وتقييمه لأهمية وجوده، كما تعني أنه بات للنفس "خارج" يحكم داخلها، إن لم نقل يصنعها.

الشهرة هي قوّة، مثلها مثل السلطة أو المال، والإنسان "بطبعه" مُحب للقوة والاقتدار إذا أخذنا رؤية نيتشه للإنسان على محمل الجد. فبحسب نيتشه يكون المسعى الأساسي لحياة الإنسان هو البحث عن القوة والسيطرة والتجاوز "الإنسان يخلق خيراً منه ويموت"، وليس البحث عن السعادة كما قال أرسطو، ولا حفظ البقاء كما اعتقد شوبنهاور، فمعنى الحياة يأتي عند نيتشه من قدرة المرء على السيطرة على حياته وشروط وجوده الخارجية والداخلية، وهذا المسعى  يسميه نيتشه "إرادة القوة". (يذهب التفسير السيئ لكلام نيتشه إلى ربط تلك الإرادة برغبة المرء في السيطرة على الآخرين وليس على شرطه الذاتي).

تختلف الشهرة عن غيرها من السُلطات في أنها تقدّم معنىً "شكلياً ووهمياً" للحياة الفردية وتعيش على الصورة الجماعية للفرد، وتلك الصورة لا تلبث أن تصبح صورة خارجية مستقلة عن النفس وعن صاحب/ة الصورة ذاته/تها. بل تمارس دورها النفسي اليوم وكأنها "أنا أعلى" تكنولوجي يستبدل رغبات "الهو" الجسدية باستيهامات الفضاء الافتراضي، وتخلق "أنا" افتراضية تتضخم عادة بالتناظر؛ وأحياناً بالتضاد، مع حدود الأنا الواقعية.

الشهرة المرغوبة لم تعد هدفاً نهائياً بذاته فحسب، بل مبدأً متعالياً للسلوك الفردي. وبهذا المعنى أصبحت "سيكولوجيا المشاهير" هي النموذج المعياري الحاكم للأفراد، ليس فقط عبر دفع رغبتهم بالحضور في المشهد إلى أقصاها، بل عبر التبنّي النفسي العمومي أو "الإيبستيمي" لشخصية "الإنسان المشهور"، حتى لو كان المُتبنِّي ذاته هو "إنسان مهدور" بالطريقة التي بيّنها مصطفى حجازي في كتابه الذي حمل العنوان ذاته. والمعنى الكامن في أن تكون "سيكولوجيا المشاهير" هي النموذج المعياري لسلوكنا، يتوضح عندما نفكر في أن صورتنا عن أنفسنا بالذات بات يصنعها النجوم، وأن المثل الأعلى لسلوكنا اليومي/الافتراضي بات هو سلوك النجم/ة، أي السلوك المقدم للجمهور، والمحكوم بالجمهور، وفيه مراقبة ذاتية مأخوذة من استبطان "ما يريده الجمهور".

 إن "سيكولوجيا المشاهير" هي مظهر جديد للنفس البشرية يصدر من، ويعبّر بالتوازي عن، مرحلة جديدة في عمر الرأسمالية يمكن تسميتها بـ"رأسمالية التكنولوجيا". وفي رأسمالية التكنولوجيا لا يصبح أصحاب الشركات التكنولوجية الكبرى هم أغنى أغنياء العالم فحسب، بل يصبح كل شخص يستخدم التكنولوجيا مُعرّضا لأن يصبح إنساناً موبوءاً بوهم العالمية ومدفوعاً للانخراط في التيار الجارف لذلك الوهم، "وهل هناك بديل عن نقص الواقع أفضل من وهم الكمال!"، (كم عدد الصور التي حذفتها قبل أن تحتفظ بتلك التي تراها أكثر جمالاً وكمالاً؟ وكم عدد الذين ينشرون صورهم "البشعة" على السوشيال ميديا؟ وكم عدد الذي يكونون سعداء فعلاً عندما تراهم مبتسمين أمام الكاميرات؟). نتبادل الصور الزائفة وكأننا نتبادل الأوهام، ووهم العالمية (المُحايث) لأفعالنا لا يعني مجرد استعداد الشخص وسعيه المحموم لبيع نفسه ووقته في سوق اللايكات والتعليقات والمشاركات للحصول على نطاق أوسع من المشاهدين، وبالتالي شهرة أوسع، بل يصبح هو الوباء الذي يُخفي من جهة الفوارق والحواجز الطبقية والدينية والثقافية والجغرافية الواقعية، ومن جهة أخرى يخترقها افتراضياً أو "وهمياً" ليعيد إنتاجها في دورة رأس المال التكنولوجي على مستوى عالمي.

لم تعد الرأسمالية المعاصرة مجرد "نمط إنتاج يقوم على استخراج فائض القيمة من العمل المأجور" كما وصفها ماركس، بل أصبحت استخراج فائض القيمة من عدم العمل، ومن وقت الفراغ، والاسترخاء والكسل والتصفّح و"النشاط الأونلايني". فما يتم استغلاله في عصر الديجتال ليس العمّال بل العاطلين عن العمل. وليس العمل بل البطالة و"الآنتي-عمل"، والقيمة الفائضة للرأسمال لا تأتي من العمل، بل من المعلومات المجانية والعادية والخاصة لكل شخص مشترك في الشبكة العنكبوتية على سطح الكوكب.

لقد أشار جيل دولوز وفيليكس غوتاري في وقت مبكر جداً إلى ما نعيشه اليوم في عملهما الضخم "الرأسمالية والشيزوفرينيا"، وذلك عبر مفهوم "الآلات الراغبة"، فالآلة لم تعد مجرد شيء خارجي نصنعه، بل إن جهازنا النفسي/الجسدي بالكامل ليس إلا مصنعاً من الآلات المعقدة لإنتاج الرغبة، ونحن كأفراد، محكومون بما يسميانه "الرغبة المنتجة" أو الـ desire production، لأن رغباتنا يتم إنتاجها في معمل اللاوعي لا مسرح الذاكرة الذي تلعب فيه العائلة أدوار البطولة كما كان الأمر عند فرويد. وقد يظن البعض أن "الرغبة المنتجة" ليست إلا جمعاً لمفهوم "الإنتاج" عند ماركس مع مفهوم "الرغبة" عند فرويد، لكننا لن نناقش هذا الرأي التبسيطي الآن، لأن التغير الداخلي في النفس بات ثنائياً بالفعل، فنحن أنفسنا أصبحنا مجرّد آلات من جهة، لكننا آلات راغبة من جهة أخرى وأصبحنا مصدراً مجانياً للإنتاج في عصر الرأسمالية التكنولوجية.

إن "سيكولوجيا المشاهير" التي تنتجها الرأسمالية المعاصرة؛ بوصفها بنية نفسية شاملة لا تعبيراً عن أشخاص محددين، باتت مصدراً هائلاً للحماقة، لإنتاج الحماقة وتبني الحماقة والاحتفال بالحماقة. ليس لأن المشاهير كلهم حمقى بالضرورة، بل لأن جماهير المشاهير الأكبر هم حشود الحمقى. في الواقع لا وجود لحشود جماهيرية بلا حماقة وجنون، وكل الظواهر الجماهيرية تحمل في طياتها أشكالاً للهيستيريا الجماعية، سواء تجلت في عبادة قائد ظفور أو فنان مشهور أو إمام مغدور. وأما حالة الخضوع للهيستيريا الجماعية في المجتمعات الغربية الحديثة فتتجلى اليوم فيما يسمى "الصوابية السياسية"، وهل الصوابية السياسية المعاصرة أو الـ political correctness غير الصوابية أمام حشود الحمقى، وبضغط من تلك الحشود، وإعادة إنتاج لتلك الحماقة الفائضة؟

ما تعمل عليه ثقافة النجومية السائدة هو بمعنى ما تسطيح النفس البشرية، حيث تجعل النفس الفردية بلا عمق، فعندما تصبح الصورة كما تظهر للآخر هي مصدر الرغبة، يفقد العمق كل أهمية، ويصبح الأهم هو ما نظهر عليه لا ما نشعر به. وأسوأ ما في تسطيح النفس هو القسوة والهشاشة التي ترافقها، وذلك يظهر عندما تصبح معاناتنا وأزماتنا وأفراحنا وأتراحنا، وحتى تفاصيل حياتنا اليومية، مجرّد بضاعة افتراضية للتداول، حيث تفقد الأحداث الحقيقية جزءا من واقعيتها، ونصبح نحن أنفسنا؛ والحياة التي نعيشها والأحداث التي تحصل لنا، مجرد "ترند" يظهر بسرعة ويختفي بسرعة وكأن هناك يدا كبرى تتصفحنا مثلما يتصفح مستخدم "إنستغرامي" أو "تيك توكي" الصور والفيديوهات السريعة واحدة تلو أخرى.

إن ما يحررنا يصبح هو ما يأسرنا عندما نرخي له حبال الطاعة والانقياد وانعدام التفكير النقدي، فمثلما حررت الرأسمالية الأفراد من قيود العائلة والطبقة التي لم يكن تغييرها ممكناً في نمط الإنتاج الإقطاعي، لكي تعود وتأسرهم في حكم المكاتب والمعامل والضرائب وعلاقات المقاولة والتشيؤ، كذلك تفعل السوشيال ميديا في عصر الديجتال، فهي إن كانت تحررنا من حدود المكان الذي نسكنه والزمان المزري الذي نعيشه وتعطينا خصوصية الأحاديث والمكالمات والصور والفيديوهات، إلا أنها تستبيح كل خصوصية ممكنة عبر الشركات المنتجة لتلك المواقع، وتأسرنا في عالم الهيستيريا الجماعية التي تنتجها سيكولوجيا المشاهير، وتدخلنا في أوهام التميّز والنجومية التي تسطّح عقولنا وتفرغنا من الداخل لتنتج منّا نسخاً مكررة في عالم افتراضي من المتشابهين. عالم مثير، لكنه يقتلنا من العزلة والملل. 

كلمات مفتاحية