زهّر ياسمينك يا شام

2021.01.04 | 13:09 دمشق

_116290383_1607787550blobid0.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يعد حاتم علي إلى سوريا استجابة لمؤتمر عودة اللاجئين الذي عقد في دمشق مؤخراً كما عاد غيره ثم اختفى على بوابات الحدود، لم يعد حاملاً جواز سفره بل عاد محمولاً في التابوت، لم يعط فرصة لشرطي كي يدقق أوراقه الثبوتية على منافذ الجوازات، ولم يرمقه آخر بنظرة شك تحيل إلى غرفة المحفوظات، ولم يتغامز مفتشو الجمارك على حقائبه كي يقتسموا الغنيمة، بل دخل سوريا من بوابة "الزير سالم" مدججاً برواية وعبق ذكر "صلاح الدين" مستلهماً سيرة "صقر قريش" عندما لم يصدق وعود مطارديه بالأمان عندما هرب من دمشق، واضعاً نصب عينيه ما حصل لأخيه حين صدّق وعودهم بالأمان وعاد، فقتلوه ما إن وصل إليهم على ضفة النهر.

عاد حاتم علي ليتأكد أن "ملوك الطوائف" مازالوا يتحكمون بـ "الفصول الأربعة" فحبسوا الربيع، ولم يفرجوا حتى عن الخريف الممزوج بطين وبرد الشتاء، بل احتكروا ما تبقى من شمس في زوايا قصورهم، وغطى الليل زنزانة صبية تتلهى بـ "قلم حمرة" وهي تسبر سر الحياة في زمن الموت.

لم يعد حاتم إلى سوريا اليوم ليحقق "أحلامه الكبيرة" لأنه يعرف أن أقصى الأحلام في الوطن أصبحت الحصول على جرة غاز

وبالرغم من حزن حاتم علي الكبير إلا أنه كان "عصي الدمع" عندما شاهد العدل ينهار أمام عينيه، ولم يبق من سيرة "عمر" إلا حكاية العدل على أطراف التاريخ. اليوم لم تسل دمعة حاتم فقط، بل سالت دموع محبيه من صالة الانتظار إلى كل الطرق المؤدية إلى الباب الصغير عندما رأت عيناه الخرابَ يأكل حواف الطريق في غوطة هجرت ساكنيها، وشبح الموت مازال يشوه كل المسارب من باب شرقي إلى المجتهد حتى ساحة الأمويين والمهاجرين.

لم يعد حاتم إلى سوريا اليوم ليحقق "أحلامه الكبيرة" لأنه يعرف أن أقصى الأحلام في الوطن أصبحت الحصول على جرة غاز، وبضع لترات من المازوت، وربطة خبز ببطاقة ذكية، وربما تذكرة ذهاب بلا عودة خارج الحدود.

و"على طول الأيام" التي عاشها خارج سوريا وبرغم مرارة الغربة عرف معنى أن تكون مواطنا تمتلك حريتك وكرامتك، وقادراً على أن تعبّر عن رأيك؛ هذا ما قاله لصديقه المخرج الليث حجو: "..تحدّث لي الأستاذ حاتم عن فترة إقامته بكندا، وعن الحياة المُشتهاة في ظل مجتمع تسوده قوانين وأنظمة تضمن حالة التكافل الاجتماعي، عن نظام التأمين الصحي والتقاعدي الذي يضمن للمواطن شيخوخة محترمة تبعده عن العوز، عن الأنظمة والضوابط التي تحكم مجال العمل الفنّي والقدرة المذهلة على تنظيم أدق التفاصيل في وضع خطة عمل واضحة ومبكرة.."

وبالتأكيد لم يعد حاتم إلى سوريا اليوم ليلهب النقاش من جديد حول آخر الملوك، وهل كانت مرحلة "الملك فاروق" ليبرالية قضى عليها حكم العسكر، أم كانت نهاية محتومة لاستشراء الفساد في الحكم؟! 

لم تعد تهمّه هذه الأسئلة عندما ضاع الوطن وغابت الدولة وتربع الليل على قمة المشهد.

لم يأتِ حاتم إلى الشام ليطلب "الغفران" عن اللجوء والهجران، بل جاء ليعتذر من شوارع الشام وأهل الشام عن فراق لم يكن بيده حيلة كي يمنعه

لم يأتِ حاتم إلى سوريا ليكتشف أن "الصراع على الرمال" بات أشد فوق أرض وطنه، لكن هذه المرة ليس بين قبيلتين يغمرهما الحقد والدماء بسبب "الرقيط" الذي يبحث عن زعامة لا يستحقها بل بين "رقيط" من نوع آخر تولى زعامة لا يستحقها وبين شعب قال لا، فهوى عليه بالحديد والنار كي يستسلم للذل تحت سقف القمع والهوان.

لم يأتِ حاتم إلى الشام ليطلب "الغفران" عن اللجوء والهجران، بل جاء ليعتذر من شوارع الشام وأهل الشام عن فراق لم يكن بيده حيلة كي يمنعه، لأن الفن الذي يعشق لا يحلق إلا في عالم الحرية وهو ما يتنافى مع وجود "عراب" سوريا اليوم وقد أباح الضرب "تحت الحزام".

في "التغريبة الفلسطينية" كان مشهد النهاية مع حاتم علي وهو ينفض الغبار عن بندقية أبيه إشارة الى أن مرحلة النضال قد بدأت، ليبعث الأمل فينا برغم المأساة ومرارة اللجوء، وها هو اليوم في آخر لحظاته وفي آخر مشهد له في التغريبة السورية المستمرة يبعث فينا الأمل بأن هناك مازال الكثير مما يوحد الشعب السوري في لحظة صدق انتظرناها طويلاً فزهّر ياسمينك يا شام.