حرب غزة والفجوة بين الحكام والشعوب

2024.01.18 | 06:56 دمشق

حرب غزة والفجوة بين الحكام والشعوب
+A
حجم الخط
-A

طوت الحرب الإسرائيلية على غزة مئة يوم من عمرها دون أن تلوح في الأفق نهاية قريبة، وسط تألق فلسطيني في الصمود والتضحية، وصلف واجرام من جانب إسرائيل قل نظيرهما، مقابل حالة من العجز والسلبية في المواقف الدولية، وعلى الأخص العربية.

ومنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر الماضي، بدا أن معظم المواقف العربية الرسمية كانت تراهن، ولو سرا، على حرب سريعة تتمكن إسرائيل خلالها من هزيمة حماس، ويواصل الجميع سياستهم السابقة كالمعتاد، لأن ما قامت به المقاومة في 7 أكتوبر، شكل "إزعاجا" لهذه السياسات، وخاصة بالنسبة للدول التي كانت تسير في درب التطبيع مع إسرائيل.

غير أن صمود الفصائل في غزة، وطول أمد الحرب، وما ارتكبته وترتكبه العصبة المتطرفة الحاكمة في تل أبيب، من فظائع ضد المدنيين، كل ذلك سبب إرباكا في المواقف الرسمية العربية التي عجزت عن انتهاج سياسة واضحة وحازمة تجاه إسرائيل، وتدرج موقف معظمها من الدعوة إلى التهدئة والهدن (وليس لوقف إطلاق نار) خلال الأسابيع الأولى مهتدية بالمواقف الأميركية والغربية التي ساندت إسرائيل بقوة، ودافعت عن "حقها" في الدفاع عن نفسها دون قيود، لتنتقل بعض المواقف الرسمية العربية إلى الدعوة لوقف إطلاق النار، وفق ما صدر عن القمة العربية الإسلامية الطارئة في اليوم السادس والثلاثين للعدوان (11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023) بعد مقتل نحو عشرة آلاف فلسطيني معظمهم مدنيون، لتتبنى بعد ذلك موقف الدعوة لوقف فوري لإطلاق النار.

وفي الإجمال، كانت هذه الدعوات هي أقصى ما بلغه الموقف الرسمي العربي، دون اتخاذ أو التهديد باتخاذ أية خطوات عملية ضد إسرائيل، مثل قطع العلاقات معها ووقف عمليات التطبيع والعودة لسياسة المقاطعة أو حتى فتح معبر رفح من جانب مصر بغض النظر عن معارضة إسرائيل، ناهيك عن إعلان الدعم للمقاومة والإشادة بأدائها، بل ظلت المواقف الرسمية تحرص على التمسك البليد بمسار التسوية الفاشل، والمرفوض إسرائيليا على أية حال.

الطابع الإسلامي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، يثير مخاوف إضافية لدى هذه الأنظمة التي تتوجس من كل التيارات الإسلامية

والواقع أن ثمة عوامل عدة يمكن من خلالها تفسير هذه المواقف العربية الرسمية الهزيلة حيال العدوان على غزة، والقضية الفلسطينية بشكل عام، مثل الأوضاع الداخلية في العديد من البلدان العربية التي تعيش صراعات وخلافات في ظل توجس الأنظمة العربية من كل ما له صله بالثورات أو التحركات الشعبية غير المنضبطة. وهي إذ تخشى من التحركات الثورية أو الشعبية، باتت أكثر هشاشة في مواجهة الضغوط الخارجية، وتشعر أنها أكثر احتياجا للدعم الخارجي، الأميركي والغربي، وحتى الإسرائيلي بالنسبة للبعض منها، خاصة في ظل التهديدات أو العلاقات غير المريحة مع إيران. بمعنى أنها ما زالت تراهن على العلاقة مع الغرب، كمصدر رئيسي لاستقرارها وداومها في الحكم، بالرغم من اهتزاز هذه الفرضية بعد تخلي الغرب عن حكم الرئيس حسني مبارك في مواجهة الحراك الداخلي. كما أن الطابع الإسلامي للمقاومة الفلسطينية المسلحة ممثلة بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، يثير مخاوف إضافية لدى هذه الأنظمة التي تتوجس من كل التيارات الإسلامية التي تصدرت المشهد في موجات الربيع العربي الداعية إلى التغيير الداخلي. وهذه العدائية من جانب الأنظمة، دفعت حماس والجهاد لفتح خطوط مع إيران لتلقي الدعم المالي والعسكري، وهو ما زاد بدوره من الفجوة مع الأنظمة العربية التي حصرت نظرتها للمقاومة من خلال علاقتها بإيران، وليس من خلال واجباتها تجاه القضية الفلسطينية، أو مقتضيات الحفاظ على مصالحها وأمنها القومي.

وجاءت عملية 7 أكتوبر من جانب المقاومة الفلسطينية، كعامل تحد واستفزاز لسياسات هذه الأنظمة الماضية في طريق التطبيع مع إسرائيل، والتخلص من تبعات وارتدادات موجات الربيع العربي.

وقد كشف المسؤول الأميركي السابق دينيس روس أنه تحدث مع عدد من الزعماء العرب بعد 7 أكتوبر يعرفهم منذ فترة طويلة، وقد أخبروه أنه لا بدّ من تدمير حماس في غزة، لأنها إذا خرجت منتصرة في الحرب، فإن ذلك سيضفي شرعية على الأيديولوجيا التي تتبناها في عموم المنطقة.

الموقف الشعبي العربي متفاعل بقوة ومتعاطف بشكل شبه كلي ليس مع محنة الشعب الفلسطيني في غزة وحسب، بل إلى حد بعيد مع فكرة المقاومة للاحتلال

وكامتداد لسياسات الأنظمة العربية، أعادت الحرب تسليط الضوء على دور السلطة الفلسطينية التي أخرجتها حماس من غزة عام 2007، وباتت السلطة اليوم أحد الخيارات المطروحة لملء فراغ "اليوم التالي" للحرب، بالرغم من معارضة حكومة نتنياهو لهذا الخيار معتبرة أن السلطة لا تختلف كثيرا عن حماس، فيما يطرح الأميركيون مسألة "تنشيط" السلطة و"إصلاحها" كشرط لمنحها دورا في إدارة غزة. ولا يخفى أن الحديث الأميركي عن سلطة فلسطينية مجددة هدفه الوصول إلى سلطة مطواعة لإسرائيل، تحارب معها فكرة المقاومة ماديا وثقافيا.

وفي المقابل، فالموقف الشعبي العربي متفاعل بقوة ومتعاطف بشكل شبه كلي ليس مع محنة الشعب الفلسطيني في غزة وحسب، بل إلى حد بعيد مع فكرة المقاومة للاحتلال، بالرغم من تحفظ بعض الفئات على حركة حماس، أو حركات الإسلام السياسي، معتبرين أن الوقت غير ملائم لإثارة هذه التحفظات، طالما أن العدوان مستمر.

ووفق استطلاع للرأي أجراه "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بين 12 كانون الأول/ديسمبر و5 كانون الثاني/يناير الجاري حول الحرب على قطاع غزة، اعتبر معظم المواطنين العرب أن الحرب على غزة تمسّهم مباشرة، وعبّر 97 بالمئة من المشاركين بالاستطلاع عن شعورهم بضغط نفسي نتيجة للحرب على غزة، و85 بالمئة قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير. وحول مشروعية عملية حماس في 7 أكتوبر، اعتبر 85 بالمئة أنها مقاومة مشروعة بغض النظر عما شابها من أخطاء محدودة. وأجمعَ الشارع العربي على اعتبار القضية الفلسطينية هي "قضية جميع العرب وليست الفلسطينيين وحدهم" بنسبة 92 بالمئة. وعبر معظم المستطلع رأيهم عن عدم رضاهم إزاء مواقف الحكومات العربية إزاء الحرب على غزة وطالبوا بقطع العلاقات مع إسرائيل وإلغاء عمليات التطبيع معها، وإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة من دون موافقة إسرائيل، واستخدام سلاح النفط من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، فيما حث البعض على إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل.