بين الاستقلال والرينبو

2023.01.23 | 06:18 دمشق

شارع الاستقلال
+A
حجم الخط
-A

عمان المدينة التي وصلتها قبل أسبوعين فقط تبدو أشبه المدن بحلب عام 2010م، لا بحجارة أبنتيها البيضاء، وإنما أيضا بهذه الأريحية التي يسير فيها المرء بين الناس دون أن يشعر أنه في بلد غريب، فأنت هنا بين النشامى الذين يستغربون بابتسامة صافية الكلمات التركية القليلة التي علقت على اللسان بحكم التكرار: الأخ سوري عايش بتركيا؟ وتومئ برأسك: نعم، فيأتي الجواب: يا هلا بيك.

لا يرى الإنسان بلده حين يعود إليها بالعين السابقة التي غادر بها البلاد، فالعين تكتسب عدسات جديدة ترى فيها الأمور من زوايا أكثر اتساعا، وعمان أخت حلب تبدو مجالا للمقارنة لا بين اللاجئين السوريين في الأردن وإخوانهم في تركيا، بل أيضا بين حلب السابقة، وحلب التي نأملها في القلوب والعقول.

حلب التي نحبها لم تكن منظمة، ولا نظيفة، سائقو سيارات السرفيس مثل الركاب يدخنون دون أدنى اعتبار لسلامة الآخرين وحرياتهم، وللقوانين التي تحرم نظريا التدخين في الأمكنة المغلقة، وباعة الأطعمة المشكوفة على الأرصفة يمر بهم العابرون فيأكلون ما تيسر، دون أدنى اعتبار لمعايير السلامة. في حلب كما في عمان، لا وجود لنظام مواصلات عام، ومعاونو السرافيس يفتقدون إلى اللباقة الاجتماعية. لا أماكن محددة لمدخني الأركيلة في المقاهي. هذه بعض معالم عمان، وهي نفسها معالم حلب التي في ذاكرتنا.

إن كان شارع الاستقالال هو واجهة تركيا السياحية على العالم وأهم شارع في البلاد، فإن الرينبو يأتي في صدارة الأمكنة السياحية في الأردن. والمقارنة هنا لا تأتي بقصد الموازنة بين الشارعين، إذ إننا سنظلم في هذه الحالة شارع الرينبو الحديث نسبيا مقارنة بشارع الاستقلال التاريخي، فالقصد هو البحث عن أوجه الشبه والمفارقة بين اللاجئين في تركيا واللاجئين في الأردن من خلال الشارعين الشهيرين.

في الاستقلال لن يغيب عن عينيك صوت البائعين السوريين في المحلات التركية بعباراتهم المرحبة، وفي الرينبو سيحل المصريون محل إخوتهم السوريين بكلمتهم الأثيرة: تفضل يا باشا. بكل تأكيد، لن يحدثك أحد عن الاندماج ولا عن الدورات المخصصة لذلك، فالاندماج لا يكون إلا بين مختلفين لغويا في المقام الأول.

في حلب كما في عمان، لا وجود لنظام مواصلات عام، ومعاونو السرافيس يفتقدون إلى اللباقة الاجتماعية. لا أماكن محددة لمدخني الأركيلة في المقاهي. هذه بعض معالم عمان، وهي نفسها معالم حلب التي في ذاكرتنا

في المقارنة بين تركيا والأردن، سيكون بإمكانك ملاحظة أن اللاجئين في الأردن هم في مجملهم من الطبقة العاملة، ومعظمهم جاء من جنوبي سوريا، وتحديدا من درعا، لا بحكم القرب الجغرافي فحسب، بل بحكم التقارب الاجتماعي والثقافي الذي نراه في وجود أعداد كبيرة من أبناء العشائر السورية الذين وجدوا بيئة مقاربة لعاداتهم وتقاليدهم ضمن النسيج الاجتماعي الأردني الذي تشكل العشيرة ركنه الأساس، إضافة طبعا إلى أعداد أخرى تقطعت بهم السبل في الأردن، ولم يعودوا قادرين على الانتقال إلى مناطق الشمال السوري أو إلى مناطق قسد أو الدول الأخرى التحاقا بأهلهم وأقاربهم، بعد أن سيطر النظام على الطرق الرئيسة، ولم يعد من الممكن الخروج من الأردن إلا عبر المعابر الرسمية التي يديرها النظام، وإن كان الملاحظ وجود أعداد كبيرة من الشباب السوري يحصل على رخصة لزيارة أهله من سفارة النظام، فينتقل إلى مناطق الشمال السوري أو مناطق قسد، تمهيدا ليبدأ رحلة اللجوء إلى أوروبا عبر تركيا ودول البلقان، وهذه الظاهرة واضحة وخصوصا مع ازدياد صعوبة الوضع الاقتصادي في الأردن في السنتين الماضيتين.

هذا الفارق الطبقي ستمتد آثاره على طبيعة الحياة الاجتماعية والنشاطات التي يقوم بها اللاجئ السوري. في الفاتح مثلا كثرة من المطاعم السورية التي افتتحها أصحابها، من أجل الاستثمار أو من أجل تبييض أموال حصل عليها أصحابها بطرق شتى. وهذا النشاط التجاري جاء في أعقاب تحول إسطنبول إلى واجهة سياحية عربية  مع بداية الربيع العربي، وتحولها إلى مكان يجد فيه السوريون من كل أصقاع الأرض نوستالجيا "دمشق وحلب" التي تقبع في أفئدة السوريين القادمين إلى المدينة بقصد السياحة والالتقاء بالأهل والأقرباء، ولا سيما أن إسطنبول نفسها أصبحت لدى السوريين المشتتين في أصقاع الأرض مثل "مقهى" أو "مطعم" يلتقون فيه إن أرادوا اللقاء ببعضهم. هذه المكانة لم تحزها عمان ولا بيروت، ولا أي مدينة أخرى هاجر أو التجأ إليها السوريون في العقد الماضي من مأساتهم المستمرة. وأذكر هنا عمان وبيروت لأنهما الأقرب جغرافيا واجتماعيا للسوريين على الأقل من الناحية النظرية، ولكن الأسباب السياسية حالت دون تحول هاتين المدينتين إلى مركزين للنوستالجيا، فخسرتا كثيرا من كل النواحي، ولا سيما من الناحية الاقتصادية.

بسبب الخلفية الطبقية، من الصعوبة العثور على لاجئين سوريين يشربون القهوة أو يدخنون النارجيلة في مقاهي شارع الرينبو الفاخرة، كما هو الشأن في الفاتح أو في غيره من الأمكنة الأخرى في إسطنبول التي تبدو مجتمعا سوريا مصغرا يضم كل الطبقات والشرائح الاجتماعية، فاللاجئون السوريون يعيشون فقط في الأحياء الشعبية في عمان، ولا يملكون ترف التسوق في المجمعات التجارية، ولا الذهاب لتناول الطعام في نهاية الأسبوع في المطاعم الكبرى، وليست لديهم رفاهية الجلوس في مقاهي الرينبو ذات الأسعار المرتفعة.

هذا كله ناتج عن طبيعة الاقتصاد الأردني نفسه، فهو اقتصاد لا يعتمد على التصنيع على نحو كبير كما هو شأن الاقتصاد التركي، وليس الأردن واجهة سياحية تمتص الأيدي العاملة السورية التي أفادت منها صناعة السياحة التركية عبر توظيف العمالة لجذب السائح العربي. الاقتصاد الأردني اقتصاد محدود الموارد، وهو على خلاف تركيا لم يقدر على جذب رؤوس الأموال السورية التي هربت في المقام الأول  إلى تركيا، وإلى مصر في المقام الثاني، فقلة المواد الأولية، وعدم مرونة الاقتصاد في توفير البيئة المناسبة للاستثمار والترحيب برؤوس الأموال السورية تحديدا، وسوق العمل الأردني، كلها عوامل أسهمت في إحجام رؤوس الأموال السورية عن التوجه إلى الأردن التي لم تستطع على خلاف تركيا ومصر أن تفيد من طبقة الصناعيين والتجار السوريين، فاستقبلت جموعا من الطبقة العاملة في قطاع الإنشاءات والبناء.

بين الفاتح والرينبو، تبدو الأردن حارة شعبية التجأ إليها السوريون من ذوي الدخل المحدود والطبقات العاملة، في حين يكرس الفاتح نفسه على أنه مكان للبرجوازية السورية التي تعيش حياة بذخ وترف في كثير من تفاصيل حياتها اليومية، تتفوق على الترف الذي كانت تعيشه في دمشق وحلب، يساعدها على ذلك وسائل الراحة المتوفرة في إسطنبول وغيرها من المدن التركية.

لكن الأهم من ذلك كله أن الثورة هنا غائبة، فعلى خلاف إسطنبول التي نراها امتدادا لمدن الثورة، ونغضب حين نرى "شبيحا" يتجول في شوارعها الجميلة، فإن عمان لا تحتل مثل هذه الرمزية، فلا أحاديث ثورية، ولا فعاليات تذكّر بها وبتضحيات أبطالها، فوحدها إسطنبول، سيدة المدن، هي التي حازت هذه المرتبة، إنها حلبنا الثانية.