بعد أوكرانيا.. لماذا أعادت واشنطن حساباتها داخل سوريا؟

2022.05.20 | 07:16 دمشق

روسيا وأميركا
+A
حجم الخط
-A

الغزو الروسي لأوكرانيا هو طموح قديم جديد لـ"بوتين"، فبعد وصوله إلى الحكم، عام 2000، وضع نصب عينيه استعادة السيطرة على الجمهوريات السوفييتة السابقة، هذه الطموحات دفعته للانزلاق إلى المستنقع الأوكراني، في محاولة يائسة منه لإعادة أمجاد "الاتحاد السوفييتي" وتقسيم السيطرة على العالم مع الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة، ووقف تمدّد الناتو نحو دول البلطيق وجنوب شرقي بحر المتوسط، كونها تعتبر أوكرانيا الدرع الجغرافي لحماية روسيا  الاتحادية.

ومن هذا المنطلق  وجد "بوتين " نفسه أمام خيارين: إمّا القبول بانضمام كييف إلى الاتحاد الأوروبي ومن ثم الناتو والوقوف متفرجاً، أو القيام بغزو أوكرانيا ومحاولة قلب نظام الحكم فيها كما فعل في الشيشان التي أعلن رئيسها "قاديروف"، نهاية عام 2014، خلال كلمة وجهها إلى الشعب الشيشاني وكل الشعوب الروسية، عن ولائه المطلق للقائد العام، الرئيس فلاديمير بوتين.

بوتين كان يرغب بتكرار التجربة ذاتها داخل أوكرانيا من خلال  وضع  رئيس موال له على سدّة الرئاسة، لكن جاءت الرياح بما لا تشتهي السفن، وما حدث لم يكن بالحسبان، فدخول الناتو منذ اليوم الأول في معركة الدفاع عن كييف كان خياراً استراتيجياً حاسماً لا بد منه.

المواجهة مع موسكو داخل أوكرانيا هي بمنزلة معركة وجود، لأن الصين بدورها كانت تنتظر  انتصار بوتين في أوكرانيا حتى تُقدم هي أيضاً على غزو تايوان، والأوروبيون بدورهم يعتبرون أوكرانيا الدرع السياسي للاتحاد الأوروبي، والجدار الذي يحمي برلين من أي تمدد روسي محتمل  نحو العمق الأوروبي.

بوتين أخطأ في حساباته وخسر معركة السيطرة على كييف، ومن ثم  أعاد انتشار قواته في مناطق مختلفة شرقي أوكرانيا، الفاتورة كانت باهظة له ولجيشه الذي خسر هيبته في العالم، وبات وزير خارجيته "لافروف" يتغنّى ليل نهار بالنووي في وجه أوروبا، في دليل واضح على عدم القدرة على حسم المعركة لصالحهم.

وبناء عليه فقد أعاد انتشار قواته وغيّر من استراتيجيته العسكرية التكتيكية، إذ يحاول اليوم التمركز داخل مناطق محددة في شرقي أوكرانيا للمحافظة على قواته المتبقية وحدود دولته من تمدد أطماع الغرب التوسعية في شرقي آسيا وشرقي المتوسط.

الخطوة التصعيدية الأميركية التالية ضد الروس كانت بالعمل على ضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو، وهذه إن دلت على شيء فإنها تدل على خسارة الروس في المعركة وفقدان السيطرة على الدول المتاخمة لحدودها، مشروع توسّع الناتو يصطدم اليوم برفض تركي قاطع.

من المعروف أن السويد تحتضن أكبر تجمع لحزب "العمال الكردستاني"، وفي كل مدينة وبلدة سويدية تجد مقرا مرخّصا للحزب المذكور تحت اسم جمعيات مدنية وإنسانية

فمن المعروف أن السويد تحتضن أكبر تجمع لحزب "العمال الكردستاني"، وفي كل مدينة وبلدة سويدية تجد مقرا مرخّصا للحزب المذكور تحت اسم جمعيات مدنية وإنسانية، لذا أنقرة لم تكتف بالرفض، بل باتت تطالب واشنطن مقابل موافقتها، برفع العقوبات عنها على خلفية شراء منظومة "إس400" الروسية، وتطالب أيضاً وعلى الدوام بعدم شرعنة مناطق شرقي الفرات سياسياً كونها تحت سيطرة "العمال الكردستاني".

بين هذا وذاك وجدت واشنطن اليوم نفسها في مواجهة الجميع، مع موسكو داخل أوكرانيا، ومع طهران حول الملف النووي، ومع أنقرة حول ملف "قسد" وحزب "العمال الكردستاني"، ومع فرنسا وألمانيا حول استيراد الغاز من روسيا، ومع بكين وبيونغ يانغ على التمدّد الصيني التكنولوجي والاقتصادي والنووي، ومع دول الخليج حول اليمن، تصاعد حدّة كل هذه الخلافات دفعتها إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، وبناءً على كل ما ذُكر تتجه إلى فتح صفحة جديدة مع أنقرة من منطلق المصلحة والحاجة الماسة إلى الموقع الجغرافي لتركيا ونفوذها السياسي والعسكري في الشرق الأوسط وشبه جزيرة القرم.

إعادة الحسابات داخل سوريا

تعمل واشنطن اليوم على إعادة انتشار قواتها داخل سوريا، فالوضع داخل أوكرانيا أفرز واقعاً جديداً وغيّر كثيرا من الموازين على الأرض، خبراء في الجيش الأميركي زاروا، منتصف الشهر الجاري، "الفرقة 17" في ريف الرقة وحاولوا إنشاء مطار عسكري خاص بهبوط وإقلاع المروحيات، كما زاروا قاعدة خراب العشق جنوب شرقي عين العرب (كوباني) في ريف حلب، لإعادة بناء قاعدة عسكرية فيها، بعد قرار الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب بالانسحاب الجزئي من سوريا تجنباً لأي صدام عسكري مع الجيش التركي الحليف في الناتو.

الخبراء في الجيش الأميركي التقوا أيضاً مع ضباط روس في إحدى القواعد جنوبي كوباني، وبعيد اللقاء خفّض الروس عدد قواتهم في هذه المواقع، وأعادوا ترتيب الأوراق مع واشنطن حول شرق الفرات، في محاولة من موسكو بعدم فتح جبهة أخرى على نفسها وهي بغنى عنها.

الحسابات الخاطئة للروس واستراتيجيتهم الجديدة

بحسب تقارير الاستخبارات العسكرية البريطانية، فإن روسيا خسرت داخل أوكرانيا ثلث قواتها، معظمها من النخبة، وبالتالي الفاتورة الباهظة للروس داخل أوكرانيا دفعتهم إلى التريّث وعدم التصعيد مع الجيش الأميركي داخل سوريا.

كل المعطيات تشير اليوم إلى أن قبول أنقرة المبدئي بضم استوكهولم وهلسنكي إلى الناتو لن يكون على طبق من ذهب، فهناك مؤشرات على وجود تفاهم أميركي - تركي حول إدارة مناطق خارجة عن سيطرة النظام.

وبحسب المعلومات المتوافرة فإن إعادة مليون لاجئ سوري من تركيا إلى مناطق المعارضة لن يتحقّق إلا بعد فرض الحظر الجوي على المناطق الشمالية والشرقية، والتفاهم حول تسيير دوريات مشتركة للجيشين الأميركي والتركي في تلك المناطق، وإخراج عناصر حزب "العمال الكردستاني" من شرق الفرات بشكل كامل، وتأمين المنطقة الحدودية بين العراق وتركيا لمد أنابيب الغاز من إقليم كردستان إلى أوروبا عبر ميناء جيهان التركية، بالإضافة إلى حل جميع الملفات العالقة فيما بينهم.

كذلك تشير المعلومات إلى أن أنقرة قبضت ثمن موافقتها على ضم السويد وفنلندا إلى الناتو رغم عدم وجود هذا الخبر على وسائل الإعلام، كل هذه التفاهمات تأتي بالتنسيق مع بريطانيا وإسرائيل وقطر، فوصول أمير دولة قطر إلى إسطنبول ولقاؤه مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، لم يكن بعيداً عن المشهد السياسي القائم، الهدف الأساسي من الزيارة الخاطفة كان محاولة أنقرة التوسط ما بين الدوحة وبرلين لإتمام إبرام الاتفاق حول تصدير الغاز القطري إلى ألمانيا، بعد فشل المفاوضات فيما بينهم، وبالتالي التخلّص من الغاز الروسي، ما بعد العام 2023، الذي يستخدمه بوتين كسلاح في المعركة مع الغرب، بالإضافة الى مناقشة تصدير الغاز العراقي إلى أوروبا عبر تركيا.

الصراع على أوكرانيا دفع بواشنطن إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، فهذه الحسابات بحاجة إلى توافق مع أنقرة وهذا لا مفر منه

الخلاصة: الصراع على أوكرانيا دفع بواشنطن إلى إعادة حساباتها داخل سوريا، فهذه الحسابات بحاجة إلى توافق مع أنقرة وهذا لا مفر منه، فتركيا بقيادة "أردوغان" ترى نفسها اليوم ليست ولاية أميركية في الشرق الأوسط كما كانت في السابق، فوجود الاتفاق المشترك فيما بينهم سيساهم بدرجة كبيرة إلى إعادة برمجة العلاقات الدولية والإقليمية في سوريا والعراق واليمن وليبيا وحول أوكرانيا بلا شك.

وبالتالي المتضررتان من هذه التفاهمات هما موسكو وطهران، المعطيات تشير إلى أن الروس سيحاولون التمسك بمناطق شرق أوكرانيا بكل الوسائل المتاحة، مقابل التنازل لواشنطن وأنقرة عن المناطق الشمالية الشرقية لسوريا كمناطق نفوذ لهما.

بالمحصلة المنطقة ذاهبة نحو تطورات جديدة وهذا لا جدال عليه، فموسكو خسرت كثيرا من أسهمها داخل سوريا وهيبتها داخل أوكرانيا، وهي مضطرة حالياً لإرضاء واشنطن، لأن معركة كسر العظم داخل أوكرانيا قد حسمت لصالح الناتو، وبالتالي المشهد السياسي العام أمام تقلبات وتوازنات جديدة.

فكل هذه الصراعات والحروب هي حول الطاقة وتحديداً الغاز، والاعتقاد السائد هو أن واشنطن تحاول بشتى الوسائل إيجاد البديل عن الغاز الروسي للاتحاد الأوروبي حتى تحمي أوروبا مستقبلاً من هيمنة الروس.

أما بالنسبة للمشهد داخل سوريا، فكل المعطيات تشير إلى أن أنقرة وواشنطن توصلتا إلى تفاهمات سياسية مشتركة والأيام القليلة المقبلة ستكون حبلى بالمفاجآت، فمن المبكر رفع الستار والغطاء عما ستؤول إليه المنطقة من تطورات جديدة، فجميع الأطراف داخل سوريا تحشد أدواتها وترتب أوراقها تحضيراً لمواجهة محتملة، وإن لم تكن اليوم فبكل تأكيد ستكون غداً، لأنّ مطالب "بوتين" بتعدد الأقطاب في العالم والسيطرة على أوروبا من خلال سلاح الغاز  لا يمكن أن يتحقق من خلال تهديد العالم بالسلاح النووي، ومن المؤكد أنه سيعض أصابعه ندماً على غزو أوكرانيا وتهوره العسكري المفتوح داخل سوريا، لأن عقارب الساعة لا يمكن أن تعود إلى الخلف، فروسيا الاتحادية التي كانت تتباهى بعظمة جيشها وبوارجها الحربية وصواريخها النووية كل هذه الأسلحة المتطورة سقطت أمام إرادة السوريين وقوة الأوكرانيين، وتحولت بين ليلة وضحاها إلى "خردة بوتين" داخل شوارع دونباس وكييف.